وإن دل هذا الحديث على شيء، فإنما يدل على فوضى الإحسان بمصر، وعلى أن المحسنين لا يبذلون المال إلا رياء وكرها، أو تقربًا من ذوي السلطة، وإن مشكلة الفقر حادة وعنيفة تكاد تخرج الفقير عن القيم الحقة، ونجعله غير مكترث بما يدور حوله من نهضة ما دامت هذه النهضة لا تلتفت إليه، ولا تعني به، ولا تحل مشكلته، إنه يبين مدى الألم والحياة السلبية التي يعيشها سواد الأمة وهم الفقراء بدون أن يسهموا في تقدمها؛ لأنهم قوى معطلة، عطلها الجوع والحرمان، ولم يعد يعنيهم من مظاهر الرقي حلوهم شيء.
ولقد تخيل المنفلوطي المدينة السعيدة، ولكنها ليست كمدينة أفلاطون كما رسمها في الجمهورية، ولا الفارابي في المدينة الفاضلة، ولا السير "توماس مور" في الأتيوبيا، بل إن مدينة المنفلوطي مدينة كان يرى أنها لا تتحقق إلا في المريخ، لا يزال أهلها على الفطرة، يعبدون الله بوحي من عقولهم لا عن رسالة بلغت إليهم، وقد التقى بأحد رجالها في منامه، ورأى فيه من السماحة الطبيعية، والخلق الكريم، وقد أنس به، وطلب إليه بعد أن عرف نقاء فطرته وسلامة طويته أن يزيره المدينة، قال: "فرأيت شوارعها فسيحة منتظمة، ومنازلها متفرقة غير متلاصقة، وقد أحاطت بكل منزل منها حديقة زاهرة، ورأيت سكانها مكبين على أعمالهم، مجدين في شئونهم، صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساء، ما فيهم فقير يتسول، ولا متبطل يتثائب ويتململ، وأغرب ما استهوى نظري أنني لم أر في تلك المدينة ذلك التفاوت الذي أعرفه في مدائننا بين الناس في منازلهم ومراكبهم ومطاعمهم ومشاربهم، وهيآتهم وأزيائهم، كما جميع سكانها سواسية في حالة المعيشة، ودرجة الثروة، فسألت الشيخ:
- ألا يوجد فيكم غني وفقير، وسيد ومسود؟
- لا يا سيدي. حسب الرجل منا بيت يؤيه، ومزرعة تقيته، ودابة تحمل أثقاله، ثم لا تهان له بعد هذا فيما سوى ذلك، لهذا لا يوجد فينا سيد ومسود؛ لأنه لا يوجد فينا غني وفقير.