للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويستهلها المنفلوطي بأن برئ من مرض حبه، وصحا من رقده كادت تتصل برقدة الموت، فهل كان مرضه بسبب الحب؟ وأنه لم يخدم بالكلام المزوق، ويقبل المعذرة، ولم يجد في رسالة حبيبه هذا ما كان يجده من قبل ذلك النور الذي كان يملأ عينيه، ويشع من سطورها ويملأ قلبه روعة وهيبة.

إنه يحمد الله الذي أداله من رقه، وكشف له من مكنونه ما كشف غشاء الهوى عن بصره، ولا يكون الإنسان رقيقًا إلا لحبيب لا لصديق ويقول المنفلوطي: "فجفت الدموع التي طالما أذلتها بين يديك، وقرت العيون التي كنت أساهر بها الكواكب شوقًا إليك، والمرء لا يذيل الدموع بين يدي الصديق، ولا يساهر النجوم شوقًا إليه، وإنما يكون ذلك من صفات العاشق وحالاته، ويصرح المنفلوطي بأن ما كان بينهما ليس الصداقة فحسب، ولكنه الحب "والحب شجرة يغرسها الأمل".

وقد بلغ غاية الأناقة في عبارته حين قال: "الحب شجرة يغرسها الأمل في القلب، ثم يغذوها بمائة وهوائه، فلا تزال تشتجر أغصانها، وترف ظلالها، وترق أطيارها حتى يعصف بها عاصف من اليأس فتموت".

ويبين أن قلبه قد انصرف عن هذا الحب، وأنه حاول أن يعيده إلى سيرته فأبى، وأنه معذور فيما فعل، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وعذبه، وأركبه في سبيل ذلك الحب مركبًا وعرًا، والآن قد فر من سجنه، واستروح نسيم الحرية وهيهات أن يقبل العودة إلى السجن ثانية، وأنه كان الحبيس الذي أطلق سراحه.

وقد استخدام المنفلوطي بعض كلمات غريبة نوعًا ما كالقلب الشموس، والمهر الأرن، وحتى يئون القارظان، وهو يلجأ في هذه الرسالة بمهارة إلى السجع غير المتكلف، وإلى المقابلة بين حال اليأس وحال الأمل، وقد أبدع في إظهار قسوة حبيبه على ذلك القلب.

هذا مع سمو في التعبير، وتحليتها بالطباق والسجع أحيانًا، والاستشهاد بالشعر، وقصر الفقرات، والازدواج والتشبيه، والاستعارة كما في قوله حتى "يعصف بها عاصف من اليأس" "والقلب الشموس"، "وأنهلته من جفائك"، وله تعبيرات موروثة كقوله عن قلبه: ركب رأسه، وأرغمت معطسه، وليس للقلب رأس ولا معطس.

<<  <   >  >>