للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقسم المنفلوطي الكتاب ثلاثة أنواع فيقول: "ولقد قرأت ما شئت من منثور العرب ومنظومها في حاضرها وماضيها قراءة المتثبت المستبصر، فرأيت أن الأحاديث ثلاثة: حديث اللسان، وحديث العقل، وحديث القلب.

ويقصد بحديث اللسان ذلك الكلام المنمق المزخرف، أو تلك الكلمات الجامدة الجافة لا يعني منها صاحبها سوى صورتها اللفظية، فإن كان لغويًا تقعر وتشدق، وتكلف وأغرب، حتى يأتيك بشيء خير ما يصنعه به الوصف أنه متن مشوش من متون اللغة لا فصول له ولا أبواب، وإن كان بديعًا جنس ورصع، وقابل ووشع، وزاوج وافتن بالكلمة مهملة كلها أو معجمة كلها، ثم لا يبالي بعد ذلك باستقامة المعنى في ذاته، ولا بمقدار ماله من أثر في نفس السامع"، وهذا النوع في رأيه هو أدنى الأنواع الثلاثة، وهو صنعة لا قيمة لها، وأما النوع الثاني أي حديث العقل، "فهو تلك المعاني التي ينحتها الناحتون من أذهانهم نحتًا ويقتطعونها اقتطاعًا، ويذهبون فيها مذهب المعاياة والتحدي والتعمق والإغراب، ويسمونها تارة تخيلًا، وأخرى غلوا، وأخرى حسن تعليل"، وضرب على ذلك عدة أمثلة تدل على الإحالة والغلو وفساد المعنى، وعلى أنها ليست مما يصدر عن الذوق السليم، والطبع المستقيم، وإنما هو تكلف مرذول ومعنى غريب.

أما النوع الثالث وهو حديث القلب، فهو "ذلك المنثور أو المنظوم الذي تسمعه، فتشعر أن صاحبه قد جلس إلى جانبك ليتحدث إليك كما يتحدث الجليس إلى جليسه، أو ليصور لك ما لا تعرف من مشاهد الكون، أو سرائر القلب، أو ليفضي إليك بغرض من أغراض نفسه، أو ليفض عنك كربة من نفسك، من حيث لا يكون للصناعة اللفظية ولا للفلسفة الذهنية دخل في هذا أو ذاك".

وهذا النوع الأخير هو الذي آثره المنفلوطي، وأطراه وحث عليه.

ويبين لنا أنه كان يقيد نفسه بمقدمة يوردها بين يدي موضوعه، ولا براهين على الصورة المنطقية المعروفة، ولا يلتزم استعمال الكلمات الفنية التزامًا مطردًا.

ولم يكن يكتب حقيقة غير مشوبة بخيال، ولا خيالًا غير مرتكز على حقيقة؛ لأني كنت أعلم أن الحقيقة المجردة عن الخيال لا تأخذ من نفس السامع مأخذًا، ولا تترك في قلبه أثرًا.

<<  <   >  >>