١ لقد كان هذا الكتاب- كما قلت قبل في مقدمة الطبعة الأولى- ثمرة من ثمار كثيرة لابن قتيبة الدينَوَريّ أبى محمد عبد الله بن مسلم، وكانت تلك الثمار كلها تحمل طابع ذلك العصر الّذي عاش فيه ابن قتيبة، وهو الميل إلى التأليف الجامع لموضوعات مختلفة، ثم الاستطراد في كل موضوع، وكان مرد هذا لا شك إلى اتساع النقل إلى العربية، فلقد ترجمت في ذلك العصر، الّذي أظل ابن قتيبة، كثرة من الكتب عن اللغات الأخرى التي كان لها أثرها لا شك في ظهور مناهج جديدة في التأليف، كان منها هذا المنهج الجامع الّذي انتهجه ابن قتيبة كما انتهجه غيره من مؤلفي ذلك العصر، كالجاحظ، وابن عبد ربه.
وكما تأثر كتّاب ذلك العصر بهذا تأثروا بشيء مثله، ولكنه كان له مظهر آخر، فلقد كان ذلك العصر عصر إرهاب وفوضى خرج الأمر فيه من يد الخلفاء إلى يد الموالي الأتراك، وأصبح هؤلاء الموالي هم الحاكمين حقّا، ولم تعد أمور الناس تجرى على طمأنينة وأمن، بل عاشوا حياة يسودها الفزع والخوف، الظّفر فيها لمن غلب.
فلقد أصبح هؤلاء الأتراك حربا على الخلفاء، وهم الذين استجلبوا ليكونوا درعا لهم، فإذا هم يقتلون منهم من لم يستجب لما يطمعون فيه، وما كان طمعهم هذا لينتهي عند غاية، فلقد أخذوا يقتلون من غير الخلفاء من يحسون فيه الميل إليهم أو الوقوف إلى جانبهم.
وأول ما كان لهم من عدوان منكر كان ذلك العدوان الّذي راح ضحيته