بعدها (أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا) أي: من ديوان الحفظة أو يمحو بمعنى يغفر (ويرفع به الدرجات) أي: المنازل في الجنة (قالوا لي) هي لإيجاب النفي المذكور في السؤال: أي: دلنا على ذلك يا رسول الله (قال: إسباغ الوضوء) أي: استيعاب أعضائه بالغسل والمسح مع استيفاء آدابه ومكملاتها (على) بمعنى مع (المكاره) جمع مكره بفتح الميم من الكره: المشقة والألم (وكثرة الخطا إلى المساجد) فيه فضل الدار البعيدة عن المسجد على القريبة، ويؤيده الخبر الآتي «دياركم تكتب آثاركم» ولا ينافيه عده من شؤم الدار بعدها من المسجد، لأن بعدها وإن كان فيه شؤم من حيث إنه قد يؤدي إلى تفويت، لكن فيه فضل عظيم إذا توجه منها إلى الصلاة بالمسجد، فشؤمها وفضلها باعتبارين فلا تنافي (وانتظار الصلاة) أي: وقتها أو جماعتها (بعد الصلاة) منفرداً أو في جماعة وذلك بأن يجلس في المسجد أو في بيته أو سوقه أو شغلته لانتظارها وذلك لتعلق فكره وقلبه بها، فهو دائم الحضور والمراقبة غير ملته عن أفضل العبادات البدنية بشيء (فذلكم) عدل إليه عن هذا الذي هو القياس للدلالة على بعد منزلته وعظمها (الرباط) لا غيره كما أفاده تعريف الجزءين الدال على الحصر لكنه إضافي: أي: ما ذكرت من تلك الثلاث هو المستحق لاسم الرباط، والرباط الحقيقي وهو ملازمة الثغر لحفظ عورة المسلمين لا يستحق ذلك الاسم بالنسبة إليها لما فيها من أعظم القهر لأعدى عدوّ الإنسان وهي نفسه الأمارة بالسوء، وقمع شهواتها وقلع مكائد الشيطان من جميع أجزائها، فإن هذه الأعمال تسد طرق الشيطان والهوى عن النفس وتقهرها وتمنعها من قبول الوسواس والشهوات، فكانت هي الرباط الحقيقي وهو الجهاد، وفي هذا أعظم تأييد لخبر «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» أي: من جهاد العدوّ إلى جهاد النفس، إذ جهاد الكفار
إنما شرع بالخروج عن النفس والأولاد والأموال لإعلاء كلمة الله تعالى مع تكميل النفس بخروجها عن مألوفاتها ومستلذاتها، لكنه لا يدوم زمنه بل يكون برهة وتنقضي، وهذه الأعمال دائمة وذلك التكميل موجود فيها بزيادة (رواه مسلم) وعند مالك «فذلكم الرباط فذلكم الرباط» وردّد مرتين، وفي رواية الترمذي ثلاثاً. وحكمته مزيد تقرير ذلك والاهتمام بشأنه المرة بعد المرة.