للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واختصره الدكتور عبدالله زهّار في كتابه (التفرد عند المحدثين) بقوله: "هو أن يأتي الراوي برواية لا يشاركه فيها أحد سنداً أو متناً" (١).

والتفرد ليس بعلة في نفسه أو في كُلّ أحواله، ولكنه مؤشر على علة قد تكون موجودة، (٢) وفي هذا يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد بِهِ واحد - وإن لَمْ يروِ الثقات خلافه -: (إنه لا يتابع عليه) ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كَثُر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه،

وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه" (٣)


(١) زهار، المرجع السابق، ١٢٤.
(٢) "هو علامة يتتبعها المحدثون للوصول إلى خفايا العلل، فالأصل في الرواية عند المحدثين وجود المتابعات والشواهد التي تؤيد الرواية وتساندها، وأما التفرد فهو خلاف الأصل، وهو يثير في نفس الناقد الارتياب، ويجعله يفتش فيما وراء هذا التفرد عن علة أو خلل أو وهم في الرواية، لا سيما في تفردات الثقات، إذ العلل في أحاديث الثقات أغمض وأخفى، فالغالب على حديثه القبول والصحة، ولا يسهل الوقوف على ما فيه من العلة الخفية ... "حمام، المرجع السابق، ١٤٦. ينظر: الفحل، اختلاف الأسانيد ٩٠.
(٣) ابن رجب، العلل، ١/ ٣٥٢ - ٣٥٣. "لا يضر تفرد الراوي بالحديث إذا كان المتفرد عدلا ضابطا ولم يخالف من هو أكثر حفظا أو عددا.
قال الإمام مسلم: "للزهري نحو من تسعين حديثا يرويها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشاركه فيها أحد بأسانيد جياد". وقال ابن حجر: "وكم من ثقة تفرد بما لم يشاركه فيه ثقة آخر، وإذا كان الثقة حافظا لم يضره الانفراد". ينظر: مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، ٣/ ١٢٦٨ ح (١٦٤٧)، ابن حجر، الفتح، ٥/ ١١.
وهذا إذا كان الراوي مُبرّزاً في الحفظ. أما إذا لم يكن كذلك، أو قليل الطلب، أو إذا روى عن المشهورين ما لا يعرفه ملازموهم، فأن تفرده عندئذ يوجب النظر والتأني. ونحن حين ننظر في كتب العلل والتخريج نجد الأئمة النقاد كثيرا ما يعلون أحاديث الثقات بالتفرد، والتفرد بحد ذاته ليس علة لكنه يكشف عن العلة بل قد يكون أحيانا من أسباب العلة.
فالتفرد من أهم المسائل الحديثية وأغمضها إذ تتميز بدورها الفعال في إلقاء الضوء على ما يكمن في أعماق الرواية من علة أو وهم، ولأهمية التفرد في النقد والتعليل الحديثي نجد أن المحدثين قد أفردوا هذا النوع بالتصنيف، فالتفرد لا يؤخذ ضابطا لرد روايات الثقات بل له أحوال مختلفة، حتى رواية الضعيف لا يرد ما ينفرد به مطلقا، بل الجهابذة الفهماء من الأولين يستخرجون منه ما صح من حديثه، وقد روى الإمام البخاري ومسلم عمّن في حفظه شيء لما ثبت لديهما أنه من صحيح حديثه، ومثل هذا لا يستطيعه كل أحد.
والتفرد إذا كان بالطبقات المتقدمة كطبقة الصحابة فإنه لا يضر، وكذلك الحال في طبقة كبار التابعين، وذلك إذا كان المتفرد عدلا ضابطا، أما إذا كان التفرد في الطبقات المتأخرة التي من شأنها التعدد والشهرة، لا سيما إذا كان عن الرواة المكثرين الذين يكثر تلامذتهم وينقل أحاديثهم جماعة، فذلك أمر يأخذه النقاد بعين الاعتبار فينظرون علاقة المتفرد بالراوي الذي تفرد عنه، وكيف كانت ملازمته له، وكيف كان يتلقى منه الأحاديث عموما، وهذا الحديث الذي تفرد به خصوصا، وحالة ضبطه لما يرويه عامة وهذا الحديث خاصة ثم الحكم عليه بعد ذلك بحسب مقتضى نظرهم، ولم يكونوا يطلقون فيه حكما مطّردا بالقبول إذا كان ثقة أو بالرد إذا كان ضعيفا، وإنما يخضع حكمهم عليه لمنهج علمي دقيق يطبقه حذاق النقاد أصحاب البصيرة والخبرة التامة بصناعة الحديث؛ وذلك لأن الثقة يختلف حاله في الضبط باختلاف الأحوال والأماكن والشيوخ لخلل يطرأ في كيفية التلقي للأحاديث، أو لعدم توفر الوسائل التي تمكنه من ضبط ما سمعه من بعض شيوخه، أو لحدوث ضياع في بعض ما كتبه عن بعض شيوخه، حتى ولو كان من أثبت أصحابهم وألزمهم له؛ ولهذا يستنكر النقاد بعض أحاديثهم. ينظر: فحل، علل الحديث، ١٣١ - ١٣٧. باختصار.

<<  <   >  >>