لقد اقترن ميلاد الدعوة الإسلامية في غار حِرَاء بالإخبار عن حتمية جريان سُنَّة الابتلاء؛ إذ قال ورقة بن نوفل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لم يَأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلَّا عُودِيَ". وقال الراهب للغلام:"أيْ بُنَيَّ، إنك خيرٌ مني، وإنك سَتُبْتَلَى". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأمْثَلُ، فَالأمثَلُ"، ولما سُئِلَ الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: أَيُّهُمَا خيرٌ للرجل: أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ قال:"لا تُمَكَّنُ حتى تُبْتَلَى".
فمع أن الله -عزَّ وجلَّ- قادر على أن يجعل البشر جميعًا على أتقى قلب رجل واحد منهم بكلمة من حرفين:"كن"، فيكون؛ إلَّا أن حِكْمَتَهُ -جل وعلا- اقتضت أن يُبْتَلَى الناس بعضهم ببعض؛ لتكون العاقبة للتقوى.
واقتضت حكمته تعالى -أيضًا- أن تُربط المسبَّباتُ بأسبابها، والنتائج بمقدماتها، وقد أودع الله سبحانه في هذا الوجود قوانين وسننًا تحكمه، وهذه السنن تحترم من يحترمها، ولو كان كافرًا، ولا تحابي أحدًا إذا أهملها، ولو كان مؤمنًا.
ولو تصور مسلم أنه إذا ألقى نفسه من مبنى شاهق فإن سنَّة أو ما يسمى "قانون الجاذبية" سوف تحابيه لإيمانه، أو تجامله ليهبط بسلام؛ فهو واهم، لأن الأصل هو إعمال تلك السنن التي لا تتبدل ولا تتحول إلَّا أن يشاء الله تعالى أن يخرق العادة، وهذا استثناء، وليس الأصل.