للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويلاحظُ هنا أنَّ كلا المَرْتبتَيْن الثانيةِ والثالثةِ متداخلَتان، فكلاهُما فصيحٌ، جارٍ على ما اطَّردَ مِنْ كلامِ العربِ، غيرَ أنَّ الثانيةَ غلبَتْ في الاستعمالِ، واشتَهرَتْ على الألسُنِ، فتقدَّمَتْ على الثَّالثةِ لبعضِ العِلَلِ السّابقِ ذكرَها، وقد أشارَ ابنُ جريرٍ (ت: ٣١٠) إلى ذلك بقولِه: «وإنَّما قُلنا: هذا القولُ أَولى بتأويلِ ذلك؛ لأنَّ ذلك هو المعروفُ في كلامِ العربِ، المُستَفيضُ فيهم، وما خالَفَه مِنْ القَولِ -وإن كانَ له وجْهٌ- فغَيرُ مُستَعمَلٍ فيما وجَّهَه إليه مَنْ وجَّهَه إليه» (١)؛ فأفادَ أنَّ المعنى المَرجوحَ صحيحٌ لُغةً، وقليلُ الاستعمالِ.

والمراتبُ الثَّلاثُ السّابقةُ كُلُّها موضِعُ احتجاجٍ صحيحٍ، وعليها تُبنى أصولُ العربيَّةِ، وشَذَّ بعضُ المُتأخِّرين (٢) فاشترطَ النَّقلَ المُستفيضَ، وشواهِدَ الشِّعرِ المُتناصرةَ، عند الاحتجاجِ باللُّغةِ لِما يوجِبُ العلمَ مِنْ نُصوصِ الشَّرعِ، وأجازَ فيما دون ذلك العملَ بخبرِ الواحدِ والاثنين، والاستشهادَ بالبيتِ والبيتَيْن. ولا معنى لهذا التَّفريقِ الحادثِ؛ لأنَّ بابَ الاحتجاجِ مبنيٌّ على تصحيحِ اللَّفظِ على مُقتضى قواعدِ العربيَّةِ وأَوضاعِها، ولا صِلةَ لذلك بما تُستخدَمُ فيه الألفاظُ مِنْ المعاني، فإذا ثبتَ استعمالُ العربِ للَفْظةٍ في معنىً فهو عربيٌّ صحيحٌ، أيّاً كانَ ذلك المعنى. ولا دلالةَ مِنْ شرعٍ أو عقلٍ تشهدُ لشروطِ هذه القِسمةِ بالصَّوابِ، كما لم يَلتفِتْ إليها أهلُ العربيَّةِ في أصولِهم، ولا يَخفى أنَّها


(١) جامع البيان ١٦/ ٥٨٦.
(٢) ذهب إلى ذلك الماورديُّ (ت: ٤٥٠)، وتبِعَه الزَّركشيُّ (ت: ٧٩٤)، والسّيوطيُّ (ت: ٩١١). ينظر: النكت والعيون ١/ ٣٧ وفي عبارتِه اضْطرابٌ، والبرهان ١/ ٢٩٤، والإتقان ٦/ ٢٢٩٩.

<<  <   >  >>