وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة. ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه؟!
وأما الشهوة: فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله، طوعا غير إكراه، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال؟!
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة، وقيام المقتضى للمعاداة، لم يكونوا معادين لله ورسوله، بل موالين لله ورسوله، معادين لمن عادى الله ورسوله، فحين قوى المقتضى للموالاه، وضعفت القدرة على المعاداة، يفعلون نقيض هذا؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً؟
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه، وكمال الإرادة له وجب وجوده، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن. ولما ظهر الإسلام وانتشر، كان المقتضى للمعاداة أضعف، والقدرة عليها أضعف. ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته.
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو.