ومنهم من جعل عقله حكما لرفض أحاديث صحت سندا ومتنا، بل في أرقى مراتب الصحاح، كالأحاديث الثابتة المتعلقة بالغيبيات مثل الجنة والنار، وعلامات الساعة، والملائكة والجن. ومن المعلوم أن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم، ولكن كيف نقيس الغائب على الشاهد، وكيف نحكم العقل في أمور لا نعرف شيئا عنها إلا بالنقل الصحيح؟ فمتى ثبت النقل لزم التسليم. أحيانا ترى جاهلا مغروراً يقف أمام حديث متفق عليه ويقول: هذا مرفوض عقلا! وكان عليه أن يسأل نفسه: أكان البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم بلا عقول؟ بل أعاشت الأمة أربعة عشر قرناً بغير عقل حتى جاء بعقله ليستدرك عليها؟
ومن أسوأ الطاعنين في عصرنا المستشرقون، وأشد منهم خطراً تلامذتهم المقلدون التابعون لهم: والمستشرقون طعنوا في القرآن الكريم نفسه كما أشرت من قبل، أما السنة فقد أنكروا وجود سنة يتصل سندها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا بأن أقصى اتصال الأسانيد ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول.
ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعتبر اختراعاً من اختراعات المسلمين المتأخرين، أرادوا أن يثبتوا أحكاما فنسبوها للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم لم ينسوا أن يطعنوا فيمن كان لهم دور كبير في السنة، فمثلا طعنوا في أبى هريرة الصحابى الجليل رضى الله عنه، الذى روى عنه أكثر من ثمانمائة من الصحابة والتابعين، وهو كما قال الشافعى " أثبت من روى الحديث فى دهره ". وطعنوا في ابن شهاب الزهرى، الإمام الحجة الثبت، أول من استجاب لعمر بن عبد العزيز في جمع السنة ... وهكذا.
ثم ظهر اتجاه آخر عندهم، اعتبره بعضهم هدما للفكر الاستشراقى، ولذلك ثاروا على القائلين به، مع أنه في النهاية يصل إلى البهتان نفسه.
ويقوم هذا الاتجاه الخبيث على الاعتراف أولا بأن السنة لها أصل، وذلك حتى يضلل جهلة المسلمين بالتظاهر بأنه لا ينكر وجود أصل للسنة، ولكن بعد هذا الاعتراف تأتى محاولة الهدم، فيقولون: إن المدارس الإسلامية الأولى لم تستطع