للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أموركم [١]. وإنَّما قدّم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ على ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لأنَّ العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو [٢] تقديم [٣] ما هو الأهم فالأهم والله أعلم.

[فإن قيل: فما معنى النون في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام. وقد أجيب بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فرد منهم، ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها، وتوسط لهم بخير.

ومنهم من قال: يجوز أن تكون للتعظيم كأن العبد قيل له: إذا كنت داخل العبادة فأنت شريف، وجاهك عريض فقل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. وإن كنت خارج العبادة فلا تقل نحن ولا فعلنا، ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج الجميع إلى الله ﷿ وفقرهم إليه.

ومنهم من قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ألطف في التواضع من إياك عَبَدْنا؛ لما في الثاني من تعظيم نفسه، من جعله نفسه وحده أهلًا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم:

لا تدعني إلَّا بيا عبدها … فإنَّه أشرف أسمائي

وقد سمى الله رسول الله بعبده في أشرف مقاماته فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾ ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلًا﴾ فسماه عبدًا عند إنزاله عليه، وعند قيامه في الدعوة، وإسرائه به، وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾.

وقد حكى الرَّازي في تفسيره عن بعضهم: أنّ مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة؛ لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق، والرسالة من الحق إلى الخلق. قال: ولأن الله يتولَّى مصالح عبده والرسول يتولَّى مصالح أمته.

وهذا القول خطأ، والتوجيه أيضًا ضعيف لا حاصل له، ولم يتعرَّض له الرَّازي بتضعيف ولا ردّ. وقال بعض الصوفية: العبادة إمَّا لتحصيل ثواب أو درء عقاب. قالوا: وهذا ليس بطائل إذ


[١]- في ز، خ: "أمركم".
[٢]- سقط من: م.
[٣]- في ز، خ: "أن يقدم".