هذا بيان لإعجاز القرآن، وأنه لا يستطع البشر أن يأتوا بمثله، ولا بعشر سور ولا بسورة [١] من مثله؛ لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته، واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة، لا تكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله، فكلامه [٢] لا يشبه كلام المخلوقين؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله﴾ أي: مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله، ولا يشبه هذا كلام البشر ﴿ولكن تصديق الذي بين يديه﴾ أي: من الكتب المتقدمة، ومهيمنًا عليها [٣]، ومبينًا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل.
وقوله: ﴿وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين﴾ أي: وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانًا شافيًا كافيًا، حقًّا لا مرية فيه من الله رب العالمين، كما تقدم في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب (٤٠): " فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم". أي: خبر عما [٤] سلف وعما سيأتي، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه.
وقوله: ﴿أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين﴾ أي: إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله، وقلتم كذبًا ومَيْنَا إن هذا من عند محمد، فمحمد بشر مثلكم، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم [٥] بسورة مثله. أي: من جنس هذا القرآن، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه: من إنس وجان.
وهذا هو المقام الثالث في التحدي، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد، فلتعارضوه بنظير ما جاء به وحده، واستعينوا [٦] بمن شئتم [٧]، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك، ولا سبيل لهم إليه، فقال تعالى: ﴿قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا﴾ ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود: ﴿أم يقولون افتراه قل فأتوا