للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر فقال: حدثني ابن البرقى، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم، عن أبي سعيد التمار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم". قلنا: من هم يا رسول الله؟ قريش؟ قال: "لا، ولكن أهل اليمن، لأنهم أرق أفئدة، وألين قلوبًا". وأشار بيده إلي اليمن، فقال: "هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية". فقلنا: يا رسول الله؛ هم خير منا؟ قال: "والذي نفسي بيده، لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مدّ أحدكم ولا نصيفه". ثم جمع أصابعه ومد خنصره، وقال: "ألا، إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس، ﴿لا يَسْتَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾] [١] (٢٦). فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية، فإن كان ذاك محفوظًا كما تقدم، فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارًا عما بعده، كما في قوله تعالى في "سورة المزمل" -وهي مكية، من أوائل ما نزل-: ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾. الآية. فهي بشارة بما يستقبل، وهكذا هذه، والله أعلم.

وقوله: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ يعني المنفقين قبل الفتح وبعده، كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء، كما قال: ﴿لَا يَسْتَوي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. وهكذا الحديث الذي في الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير" (٢٧). وإنما نَبّه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم مترهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه؛ مع تفضيل الأول عليه، ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، أي: فلخبرته


= قوى إيمانه، حديث (١٤٧/ ١٠٦٤) (٧/ ٢٣٠ - ٢٣١). من طريق عطاء عن أبي سعيد.
وأخرجه البخاري في كتاب المناقب برقم (٣٦١٠)، وفي فضائل القرآن برقم (٥٠٥٨)، وفي استتابة المرتدين برقم (٦٩٣٣). ومسلم في كتاب الزكاة (١٠٦٤) كلاهما من طرق أخرى عن أبي سعيد الخدري به.
(٢٦) - تفسير الطبري (٢٧/ ٢٢١) وليس في الإسناد أبو سعيد الخدري.
(٢٧) - أخرجه مسلم في كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله، حديث (٣٤/ ٢٦٦٤) (١٦/ ٣٢٩).