وقال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود، أحدثوا طريقًا ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِذْ قَال لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَال أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالمِينَ﴾ أي: أمره الله تعالى بالإخلاص له، والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا. وقوله: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ﴾، أي: وصى بهذه الملة -وهي الإِسلام- لله [أو يعود الضمير على الكلمة، وهي قوله: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالمِينَ﴾][١] لحرصهم [٢] عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها، إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم.
[كقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾، وقد قرأ بعض السلف: ويعقوبَ بالنصب عطفًا على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابنَ ابنه يعقوبَ بن إسحاق، وكان حاضرًا ذلك. وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه: أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم، ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح، والظاهر -والله أعلم- أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة؛ لأن البشارة وقعت بهما في قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾، وقد قرئ بنصب يعقوب ها هنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما؛ لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضًا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ الآية، وقال في الآية الأخرى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضًا فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب (١) المتقدمة، وثبت في الصحيحين (٨٤٤) من حديث أبي ذر، قلت: يا رسول الله! أيُّ مسجد وضع أولُ؟ قال:"المسجد الحرام" قلت: ثم أي. قال:"بيت المقدس". قلت: كم بينهما؟ قال:"أربعون سنة" الحديث.
فزعم ابن حبان أن بين سليمان -الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه- وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين، والله أعلم، وأيضًا فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبًا، وهذا يدل على أنه
(٨٤٤) - رواه البخاري في أحاديث الأنبياء باب (١٠) برقم (٣٣٦٦) ورواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم ١ - (٥٢٠).