لا يسمع العلم والحكمة وينفر من مجالس العلماء والحكماء، ويألف سماع أخبار الدنيا والخرافات وما يجري في مجالس العوام، فألحقه بعالم الخنافس فإنه يعجبه أكل العذرات ويألف روائح النجاسات، ولا تراه إلا ملابساً للأخلية والمرحضات وينفر من روائح المسك والورد، وإذا طرح عليك المسك وماء الورد مات.
وإذا رأيت إنساناً إنما دأبه حفظ الدنيا لا يستحي من الوثوب عليها، فألحقه بعالم الحدآن بأن تكن رحلك عنه. وإذا بليت بالرجل عليه الأناة والسكينة وقد نصب أشراكه لاصطياد الدنيا، وأكل أموال الودائع والأمانات والأرامل واليتامى فألحقه بعالم الذئاب، وهو كما قال فيه القائل:
ذئب تراه مصلياً
فإذا مررت به ركع
يدعو وجل دعائه:
ما للفريسة لا تقع؟
عجل بها يا ذا العلا
إن الفؤاد قد انصدع!
فاحترز منه كما تحترز من الذئب. وإذا بليت بصحبة إنسان كذاب فاعلم أن الإنسان الكذاب كالميت في الحكم، لأنه لا يقبل له خبر كما لا خبر للميت، وكما لا تصحب الموتى لا يصحب الكذاب. وقد قيل في المثل: كل شيء شئ إلا صحبة الكذاب لا شيء ويجوز أن يلحق بعالم النعام فإنه يدفن جميع بيضه تحت الرمل، ثم يترك واحدة على وجه الرمل وأخرى تحت طاقة من الرمل، وسائر بيضه في قعر الحفرة، فإذا رآه الغراب أخذ تلك البيضة ويكشف عن وجه الرمل فيجد الأخرى، فيظن أنه ليس ثم شيء آخر. والخبير بحالة النعام إذا رأى البيضة لا يزال بحفر حتى يصل إلى حاجته ولا يغتر بتلك البيضة، فكذلك الكذاب إذا سمعت منه خبراً لا تصدقه حتى تبلغ الغاية في الكشف عنه.
وإذا رأيت رجلاً إنما دأبه أن يصنع نفسه كما تصنع العروس لبعلها، يبيض ثيابه ويعدل عمامته ويأنف أن يمسه شيء غيره وينظر في عطفيه ويطرح القذى عن ثوبه، ليس له همة بين الجلساء إلا نظره إلى نفسه وإصلاح ما انثنى من ثيابه، فألحقه بعالم الطواويس التي هذه صفتها فإنه يتبختر في مشيه، وينظر إلى نفسه ويفرش ذنبه فتتخذه الملوك استحساناً له. وإذا رأيت إنساناً حقوداً لا ينسى الهفوات ويجازي بعد المدة على السقطات، فألحقه بعالم الجمال. والعرب تقول: فلان أحقد من جمل. وكما تجتنب قرب الجمل الحقود فاجتنب صحبة الرجل الحقود.
وإذا رأيت إنساناً منافقاً يبطن خلاف ما يظهر فألحقه بعالم اليربوع، وهو فأر يكون في البرية يتخذ حجراً تحت الأرض يقال له النافقاء، وله فوهتان يدخل من إحداهما ويخرج من الأخرى، ومنه اشتق اسم المنافق فإذا هم أحد بأخذه دخل حجره وخرج من الباب الآخر، فيحفر الصياد خلفه فلا يظفر بشيء، كذلك حال المنافق لا يصح منه شيء وعلى هذا النمط كن في صحبة الناس تستريح منهم وتريحهم، فلعمر الله ما استقامت لي صحبة الناس وسكنت نفسي واستراحت من مكابدة أخلاقهم، إلا من حيث سرت معهم بهذا السير! وقال الرباحي: يا بني رباح لا تحقروا صغيراً تأخذون عنه، فإني أخذت من الثعلب روغانه ومن القرد مكائده، ومن السنور صرعه ومن الكلب صولته ومن ابن آوى حذره، وقد تعلمت من القمر مشي الليل ومن الشمس الظهور الحين بعد الحين.
الباب السادس والثلاثون: في بيان الخصلة التي فيها غاية كمال السلطان وشفاء الصدور وراحة القلوب وطيب النفوس