اعلم أيها الملك أنك إن كملت فيك الخصال المحمودة والأخلاق المشكورة والسيرة المستقيمة، وخالفت نفسك وقهرت هواك ووضعت الأشياء مواضعها، ثم إن الرعية اهتضمت حقك وجهلت قدرك ولم توفك حظك، وبلغك منهم ما يسؤك ورأيت منهم ما لا يعجبك، فاعلم أنك لست بإله فلا تطمع أن يصفو لك منهم ما لا يصفو منهم للإله. وفصل الخطاب في هذا الباب أن تعلم أن الله خلق الخلائق أجمعين وأنعم عليهم بأنواع من النعم، فأكمل حواسهم وخلق فيهم الشهوات ثم أفاض عليهم نعمة فكملت لهم اللذات، وبعد هذا فما قدروا الله حق قدره ولا عظموه حق عظمته، بل قالوا فيه ما لا يليق به ووصفوه بما يستحيل عليه، وأضافوا إليه ما يتقدس عنه وسلبوه ما يجب له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، فمنهم من قال هو ثالث ثلاثة، ومنهم من قال له زوجة، ومنهم من قال له ابن، ومنهم من قال له البنات، ومنهم من يجسمه ومنهم من يشبهه، ومنهم من أنكره رأساً وقالوا ما للخلق صانع كما حكاه الخالق عنهم فقال: نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وهو مع ذلك يحييهم ويميتهم ويصح أجسامهم وحواسهم ويرزقهم وينعمهم ويقضي مآربهم وأوطارهم، ويمتعهم متاعاً حسناً ويبلغهم آمالهم في معظم ما يحتاجون إليه، فمعاصيهم إليه صاعدة وبركاته عليهم نازلة، كل يعمل على شاكلته وينفق مما عنده، وكل ذي حال أولى بها.
وفي مناجاة موسى عليه السلام أنه قال: إلهي أسألك أن لا يقال في ما ليس في! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى ذلك شيء ما فعلته لنفسي فكيف أفعله لك؟ وفي هذه السيرة عبرة لمن اعتبر وذكرى لمن تذكر، مع أنك إن التمست رضاء جميع الناس التمست ما لا يدرك، وكيف يدرك رضاء جميع المخلوقين؟ فيا أيها الملك الذي كتب الله عليه الفناء والعمر القصير والزمان اليسير والأيام المعدودة والأنفاس المحصورة، كيف أردت أن يصفو لك من الرعية ما لم يصف منهم لخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم؟ هيهات هيهات بعيد ما طلبت ومستحيل ما أملت! فلك في الله أسوة حسنة أن ترضى منهم ما رضي الله تعالى منهم، وتسير فيهم بسيرة ربهم فيهم، ألم تر كيف أحسن إليك ورضي منك باليسير من العمل، وأكثر لك من النعم والأموال والخول؟ وانظر كيف يستر زلاتك ويغفر هفواتك، ولا يفضحك في خلواتك، ففي هذا ما يمهد النفوس ويهذب ذوي العقول ويهدي إلى الصواب، ويوضح طريق الرشاد. ولله در عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقد كان راغباً لما تلوته عليك، فإنه روى عنه أنه كتب إلى عمرو بن العاصي: كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك!
[الباب السابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي فيها ملجأ الملوك عند الشدائد ومعقل السلاطين عند اضطراب الأمور وتغيير الوجوه والأحوال]
أيها الملك إذا اعتجلت الأمور في صدرك واضطربت عليك القواعد، ومرجت في قلبك وجوه الآراء وتنكرت عليك المعارف، واكفهر لك وجه الزمان ورأيت آثار الغير، فلا تغلبنك خصلتان اترك للناس دينهم ودنياهم ولك الزمان من طوارق الحدثان وما يأتي به الملوان؛ فقد ترى أن المأمون قال في آخر موافقته مع أخيه الأمين: قد نفذت الأموال وألحت الأجناد في طلب الأرزاق فقال المأمون: بقيت لأخي خصلة لو فعلها ملك موضع قدمي هاتين قيل له: وما هي؟ فقال: والله إني لأضن بها على نفسي فكيف على غيري؟ فلما خلص له الأمر سئل عن تلك الخصلة فقال: لو أن الأمين نادى في جميع بلاده أنه قد حط الخراجات والوظائف السلطانية وسائر الجبايات عشر