للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لكان التعزي عند كل مصيبة

ونازلة بالحر أولى وأجمل

فكيف وكل ليس يعدو حمامه

وما لامرئ عما قضى الله مرحل؟

فإن تكن الأيام فينا تبدلت

ببؤس ونعمى والحوادث تفعل

فما لينت منا قناة صليبة

ولا ذللتنا للذي ليس يجمل

ولكن رحلناها نفوساً كريمة

تحل ما لا يستطاع فتحمل

وقينا بحمد الله منا نفوسنا

فصحت لنا الأغراض والناس هزل

[الباب الثالث والثلاثون: في كتمان السر]

قال الله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} (يوسف: ٥)

فلما أفشى يوسف عليه السلام رؤياه بمشهد امرأة يعقوب، أخبرت إخوته فحل به ما حل. وفي الحديث: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود. واعلم أن كتمان السر من الخصال المحمودة في جميع الخلق ومن اللوازم في حق الملوك، ومن الفرائض الواجبة على الوزراء وجلساء الملوك والأتباع. قال علي رضي الله عنه: سرك أسيرك، فإن تكلمت به صرت أسيره. واعلم أن أمناء الأسرار أشد تعذراً وأقل جودا من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتم الأسرار، فإن أحراز الأموال منيعة بالأبواب والأقفال، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق ويشيعها كلام سابق، وعبء الأسرار أثقل من عبء الأموال، وإن الرجل ليستقل بالحمل الثقيل يحمله ويمشي به ويثقله، ولا يستطيع كتم السر. وإن الرجل يكون سره في قلبه فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه بحمل الأثقال، فإذا أذاعه استراح قلبه وسكن جأشه، وكأنما ألقى عن نفسه جبلا.

قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: القلوب أوعية والشفاه أقفالها والألسن مفاتحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره. ومن أعجب الأمور أن الأموال كلما كثرت خزانها كانت أوثق لها إلا السر فإنه كلما كثرت خزانه كان أضيع له، وكم من إظهار سر أراق دم صاحبه ومنع من بلوغ مأربه، ولو كتمه أمن من سطوته، وقال أنوشروان، من حصن سره فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته والسلامة من السطوات. وقال بعض الحكماء: سرك من دمك، فلا تجره في غير أوداجك، فإذا تكلمت به فقد أرقته. وكان لعثمان بن عفان رضي الله عنه كاتب اسمه حمران، وهو مولاه، فاشتكى عثمان فقال: اكتب العهد بعدي لعبد الرحمن بن عوف. فقال حمران لعبد الرحمن البشرى! فقال عبد الرحمن: لك البشرى بماذا؟ فأخبره الخبر فانطلق عبد الرحمن فأخبر عثمان الخبر. فقال عثمان: أعاهد الله أن لا يساكنني حمران أبدا! ونفاه إلى البصرة فلم يزل بها حتى قتل عثمان ابن عفان.

واعلم أن كتمان الأسرار يدل على جواهر الرجال، وكما أنه لا خير في آنية لا تمسك ما فيها فلا خير في إنسان لا يملك سره. ويروى أن رجلاً أودع سره عند رجل فقال له: أفهمت؟ قال: بل جهلت. فقال: أحفظت؟ قال: بل نسيت. وقيل لبعضهم: كيف كتمك للسر؟ فقال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر. قال الشاعر:

ولو قدرت على كتمان ما استملت

مني الضلوع على الأسرار والخبر

لكنت أول من ينسى سرائره

إذ كنت من نشرها يوماً على خطر

قال شيخنا: ومن أحسن شيء سمعته في كتمان السر ما أنشده بعض فقهاء البصريين بالبصرة فقال:

<<  <   >  >>