السفه ذل وشين. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ازداد رجل بعفو إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله. وقال بعض الحكماء: من تذكر قدرة الله لم يستعمل قدرته في ظلم عباده. وكتب بعض ملوك الفرس كتاباً ودفعه إلى وزيره وقال له: إذا غضبت فناولنيه. وفيه مكتوب: ما لك والغضب إنما أنت بشر، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء! وكان معاوية كثيراً ينشد:
إنا إذا مالت دواعي الهوى
وأنصت السامع للقائل
واعتلج الناس بألبابهم
نقضي بحكم عادل فاضل
نخاف أن تسفه أحلامنا
فيحمل الدهر على الحامل
وقال بعض الحكماء: إياك وعزة الغضب فإنها تفضي إلى ذلة العذر. وقال الشاعر:
وإذا ما اعترتك في الغضب الع
زة فاذكر مذلة الاعتذار
وقال آخر:
زررنا على غير الفواحش قمصنا
ولم نستجز إلا الذي هو أجوز
وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي إلا عفوت عني! فعفا عنه لما ذكره قدرة الله تعالى عليه. وقال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان في أسارى بني الأشعث: إن الله أعطاك ما تحب من الظفر، فأعط الله ما يحب من العفو. وقال المأمون لعمه إبراهيم بن المهدي، وكان مع أخيه عليه: إني شاورت في أمرك فأشاروا علي بقتلك، إلا أني وجدت قدرك فوق ذنبك، فكرهت القتل لألزم حرمتك! فقال: يا أمير المؤمنين، إن المشير أشار بما جرت به العادة في السياسة إلا أنك أبيت أن تطلب النصر إلا من حيث عودته من العفو، فإن عاقبت فلك نظير وإن عفوت فلا نظير لك! وأنشأ يقول:
البر منك وطي العذر عندك لي
فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتج عندك لي
مقام شاهد عدل غير متهم
وقال بعض الحكماء: الغضب على من لا تملك عجز وعلى من تملك لؤم. ومنها أن يتذكر ما يؤول إليه الغضب من الندم ومذلة الانتقام، وشرع القصاص في بدنه بين يدي من لا يرحمه، فإن ذلك مما يزعه عن الغضب.
[الباب الثلاثون: في الجود والسخاء]
وهذه الخصلة الجليل قدرها العظيم موقعها الشريف موردها ومصدرها، وهي إحدى قواعد المملكة وأساسها وتاجها وجمالها، تعنو لها الوجوه وتذل لها الرقاب، وتخضع لها الجبابرة وتسترق بها الأحرار وتستمال بها الأعداء وتستكثر بها الأولياء، ويحسن بها الثناء ويملك بها القرباء والبعداء، ويسود بها في غير عشائرهم الغرباء. وهذه الخصلة بالعزائم والواجبات أشبه منها بالجمال والمتممات، وكم قد رأينا من كافر ترك دينه والتزم دين الإسلام ابتغاء عرض قليل من الدنيا يناله، وكم قد سمعنا من مسلم ارتد في أرض الشرك افتتاناً بيسير من عرض الدنيا! وأخلق بخصلة يترك الإنسان لها دينه الذي يبذل دونه نفسه،