للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أدري ما يكون وراء ذلك.

[الباب الثامن والأربعون: في سيرة السلطان في بيت المال]

وهذا باب سلكت فيه ملوك الطوائف والهند والصين والسند، وبعض ملوك الروم خلاف سيرة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام والخلفاء الراشدين، فكانت الملوك تدخر الأموال وتحجبها عن الرعية وتعدها اليوم كريهة، على ما بينا في الباب قبله. وكانت الرسل والخلفاء من بعدهم تبذل الأموال ولا تدخرها وتصطنع الرعية وتوسع عليها، فكانت الرعية هم الأجناد والحماة. وهذه سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد علمتم أن جوعه كان أكثر من شبعه، وأنه مات ودرعه مرهون في صاع من شعير عند يهودي، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابنه الحسن وعمر بن عبد العزيز. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه بلاد اليمن، كانت تجبى إليه الأموال فيفرقها ليومها، وقد توضع في المسجد وتفرش الأنطاع عليها ويفرقها من الغد ولم يكن له بيت مال.

وروى أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء الآخر، ثم دخل حجرته وخرج مسرعاً وبيده خريقة فيها ذهب فقسمه، ثم قال: ما ظن آل محمد لو أدركه الموت وهذا عنده؟ ولم يكن للنبي بيت مال ولا للخلفاء الراشدين بعده، وإنما كانت الخلفاء تقسم الأموال التي جبيت من حلها بين المسلمين، وربما كان يفضل منها فضلات فتجعل في بيت، أو يكون بالناس عنها غنى في ذلك الوقت فتجعل في بيت، فمن حضر من غائب أو احتاج من حاضر قسم له حظه، ثم يفرق حتى لا يبقى في البيت منه درهم، كما روي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أشرف على بيت فيه مال فقال: يا بيضاء يا حمراء ابيضي واحمري وغري غيري! ثم أمر فقسم ما فيه بين المسلمين، وأمر قنبراً أن يكنسه ويرشه، ثم دخل فصلى فيه.

ثم إن كثيراً من الملوك ساروا في الأموال على هذه السيرة من ملوك الإسلام وملوك الروم، ومعظم ما أهلك بلاد الأندلس وسلط عليها الروم أن الروم التي كانت تجاورها لم يكن لهم بيوت أموال، وكانوا يأخذون الجزية من سلاطين الأندلس ثم يدخلون الكنيسة، فيقسمها سلطانهم على رجاله بالطاس ويأخذ مثل ما يأخذون، وقد لا يأخذ منها شيئاً، وإنما كانوا يصطنعون بها الرجال، وكانت سلاطيننا تحجب الأموال وتضيع الرجال، فكان للروم بيوت رجال وللمسلمين بيوت أموال، فبهذه الخلة قهرونا وظهروا علينا. وكان من يذهب هذا المذهب ولا يدخر الأموال تضرب فيه الأمثال. ويقال: عدو الملك بيت المال وصديقه جنده، فإذا ضعف أحدهما قوي الآخر، فإذا ضعف بيت المال ببذله للحماة قوي الناصر واشتد بأس الجند فيقوى الملك، وإذا قوي بيت المال وامتلأ بالأموال قل الناصر وضعفت الحماة، فضعف الملك فوثب عليه الأعداء.

وقد شاهدنا ذلك في بلاد الأندلس مشاهدة، وإذن كان الدفاع في الرجال لا في الأموال، وإنما يدافع بالأموال بواسطة الرجال فلا شك أن بيت رجال خير من بيت مال. وقد قال بعض الملوك لابنه: يا بني لا تجمع الأموال لتقوى بها على الأعداء، فإن في جمعها تقوية للأعداء. يعني إذا جمعت المال أضعفت الرجال، فيطمع فيك الصديق ويثب عليك العدو وإنما مثل الملك في مملكته مثل رجل له بستان فيه عين معينة، فإن هو قام على البستان فأحسن تدبيره وهندس أرضه وغرس أشجاره وحظر على جوانبه، ثم أرسل الماء فاخضر عوده وقويت أشجاره

<<  <   >  >>