وقال حكيم: ما كتمته عن عدوك فلا تطلعن عليه صديقك، فإن لم يكن لك يد من إذاعته لقرينة تقتضيه من صديق مساهم أو استشارة ناصح مسلم، فمن صفات أمين الأسرار أن يكون ذا عقل ودين ونصح مروءة، فإن هذه الأمور تمنع من الإذاعة وتوجب حفظ الأمانة، ومن كملت فيه فهو عنقاء مغرب، ولا تودع سرك عند من يستدعيه فإن طالب الوديعة خائن. قال صالح بن عبد القدوس: لا تودع سرك لطالبه منك فالطالب للسر مذيع. وفي الجملة: إذا زال سرك عن عذبة لسانك فالإذاعة مستولية عليه إذا أودعته قلب ناصح محب، فاحتمال مرارة الكتمان على قلبك أسهل عليك من التململ بتمليك سرك لغيرك.
واعلم أن إشاء سر غيرك أقبح من إظهار سر نفسك لأنه يبوح بإحدى وصمتين: إما الخيانة إن كان مؤتمناً أو النميمة إن كان مستخبراً. وقال بعض الحكماء لابنه يا بني كن جواداً بالمال في مواضع الحق، ضنينا بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر والبخل بمكتوم السر. وكان يقال: صدور الأحرار قبور الأسرار. وقال الشاعر:
ألم تر أن وشاة الرجا
ل لا يتركون أديماً صحيحا
فلا تفش سرك إلا إليك
فإن لكل نصيح نصيحا
وقال غيره:
ما كل مكتوم يباح به
احذر لسانك من جوالبه
فمرارة الكتمان أعذب من
بث تحاذر من عواقبه
ليس الهوى ما كنت تعرفه
أيام تلعب في جوانبه
هذا هوى لو فضحت به
ضحك الحسام إلى مضاربه
الباب الرابع والثلاثون: في بيان الخصلة التي يصلح عليها الأمير والمأمور وهي رهين من سائر الخصال وزعيم بالمزيد من الآلاء والنعماء من ذي الجلال والإكرام وهي الشكر
قال الله تعالى حكاية سليمان بن داود عليهما السلام، وقد آتاه الله تعالى ملك الدنيا والجن والإنس والطير والوحش و {الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}(صّ: ٣٦)
فلما استمكن ملكه قال صلى الله عليه وسلم:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}(النمل: ٤٠) فما عدها نعمة كما عدها ملوك الأرض، ولا حسبها كرامة من الله تعالى عليه كما ظنها ملوك الأرض، بل خاف أن تكون استدراجاً من حيث لا يعلم كما قال الله تعالى في أمة أراد هلاكهم {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ*وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(الأعراف١٨٣: ١٨٢)
جاء في التفسير: أصب عليهم النعم وأنسيهم الاستغفار، وإنما الفرح بما أوتي من الدنيا والغبطة بزهوتها والاغترار بزبرجها من شعار الكفار، ألا ترى إلى قول قارون اللعين: إنما أوتيته على علم عندي فكان جزاؤه ما قال الله تعالى {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}(القصص: ٨١) ولما خاف سليمان عليه السلام أن يكون استدراجاً كان جوابه ما قال الله تعالى {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(صّ: ٣٩)
واعلم أرشدك الله أن الشكر ليس هو حافظ النعم فقط، بل هو مع حفظه لها زعيم بزيادة النعم وأمان من حلول النقم. والشكر على ثلاث مراتب: شكر بالقلب وشكر باللسان وشكر بالجوارح. فأما الشكر الواجب على جميع الخلق فشكر القلب، وهو أن تعلم أن النعمة من الله تعالى وحده، وأن لا نعمة على الخلق من أهل السموات والأرض إلا بداءتها من الله تعالى، حتى يكون الشكر لله تعالى عن نفسك وعن غيرك، بمعرفة إنعام الله تعالى عليك وعلى غيرك. وهذا النوع هو الذي يقال فيه: يجب على العبد أن يشكر الله تعالى على نعم أسديت إلى غيره.