والدليل على أن الشكر محله القلب وهو المعرفة قوله تعالى {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل: ٥٣)
أي أيقنوا أنها من الله تعالى. وإلى هذه الكلمة انتهى جميع ما قاله الخلق في الشكر، والدليل عليه أيضاً قوله تعالى {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران: ١٢٣)
أي فاتقوني فإنه شكر لنعمتي وخلق الله الحياة نعمة على العبد فقال تعالى {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: ٥٦)
والعبارة عنه أن يقال الشكر اعتراف القلب بإنعام الله تعالى على وجه الخضوع.
ويقال فيه: الشكر اعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة.
وقال أبو عثمان: الشكر معرفة العجز عن الشكر. وروي أن داود عليه السلام قال: إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى الله تعالى إليه: الآن قد شكرتني. وقال وهب بن منبه: قال داود عليه السلام: إلهي ابن آدم ليس فيه شعرة إلا تحتها منك نعمة وفوقها منك نعمة فمن أين يكافئها؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود إنني أعطي الكثير وأرضى باليسير، وإن شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمني وفي هذا يقال: الشكر على الشكر أتم الشكر؛ وذلك بأن ترى شكرك بتوفيقه ويكون ذلك التوفيق من أجل النعمة فتشكره على الشكر، ثم تشكره على شكر الشكر إلى ما لا يتناهى، وهذا الشكر أيضاً واجب. ونظم محمود الوراق كلاما في المعنى فقال:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة
علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها
وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
فما منهما إلا له فيه نعمة
تضيق بها الأوهام والسر والجهر
ومن أقر بنعمة الله وإحسانه فقد أقر بقدر ما كلف، لأن أحداً لا يمكنه أن يوازي شكر نعمة الله تعالى. وفي مناجاة موسى عليه السلام: إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف يشكرك؟ قال: أن يعلم أن ذلك مني، فكأن معرفته بذلك شكره لي.
فصل:
وأما شكر اللسان فقال تعالى فيه {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: ١١)
قيل: يعني النبوة. وقيل: يعني القرآن، وحكم الآية عام في جميع النعم روى النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله تعالى، والتحدث بالنعم شكر. وقال الله تعالى حكاية عن أهل الجنة أنهم قالوا {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (الزمر: ٧٤) وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر. وكتب عدي بن أرطاه إلى عمر بن عبد العزيز، لما حفر نهر البصرة الذي يقال له نهر عمراني: حفرت لأهل البصرة نهرا عذب لهم مشربه وجادت عليه أموالهم ولم أر لهم على ذلك شكر، فإن أذنت لي قسمت عليهم ما أنفقت عليه. فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إني لا أحسب أهل البصرة خلوا من رجل قال الحمد لله حيث حفرت هذا النهر وأن الله قد رضيها شكراً من جنته، فارض بها شكرا من نهرك والسلام.
وحقيقة الشكر في هذا القسم الثناء على المحسن بذكر إحسانه. وعلى هذا القول يوصف الرب تعالى بأنه شكور حقيقة، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه، وشكر الله للعبد ثناؤه عليه بإحسانه، وإحسان الرب للعبد إنعامه عليه. وهذه اللفظة مأخوذة من قولهم دابة شكور إذا ظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف. ويقال: وجه شكور إذا كان ممتلئ المحاسن ظاهرها. وفي الحديث: يقول الله تعالى: أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد