غيري وأرزق ويشكر غيري. وقال بعضهم: إنما أوتي الناس لأنهم في موضع صبرهم يحسبون أنهم في موضع شكر.
فصل:
وأما الشكر الذي على الجوارح فقال الله تعالى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}(سبأ: ١٣) فجعل العمل شكراً. وقال عطاء: دخلت على عائشة رضي الله عنها مع عبيد بن عمير فقال لها عبيد: يا أم المؤمنين حدثينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت وقالت: وأي شيء لم يكن عجبا؟ إنه أتاني في ليلة فدخل معي فراشي حتى مس جلده جلدي ثم قال: يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي، فقلت: إني أحب قربك. فأذنت له فقام إلى قربة ماء فتوضأ وأكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة فقلت له: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا فلملا أفعل وقد نزل علي: إن في خلق السموات والأرض.
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الشكر بالعمل وبين فيه مراد الكتاب، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}(الفرقان: ٦٢)
أي كل واحد منهما يخلف الآخر، فمن فاته العمل في أحدهما عمله في الآخر فجعل الأوراد والأعمال بالجوارح شكرا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى انتفخت قدماه فقيل له: يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكورا؟ وقال أبو هارون: دخلت على أبي حازم فقلت له: رحمك الله ما شكر العينين؟ قال: إذا رأيت بهما خيراً أذعته، وإذا رأيت بهما شراً سترته. قلت له: ما شكر الأذنين؟ قال: إذا سمعت بهما خيرا حفظته، وإذا سمعت بهما شرا نسيته. قلت: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لك ولا تمنع حق الله فيهما. قلت: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله صبرا وأعلاه علما. قلت: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}(المؤمنون٦: ٥)
فإن أنت فعلت فأنت الشاكر حقا. وفي حكمة إدريس عليه السلام: لن يستطيع أحد أن يشكر الله تعالى على نعمة بمثل الإنعام على خلقه، ليكون صانعا إلى الخلق مثل ما صنع به الخالق تعالى.
وإذا ثبت أن فعل الطاعات شكر فإن فيهما ما هو أشد ملازمة من غيره. فالطاعة في مواساة الفقراء أشكل بالشكر على الغنى من غيرها لأنها من جنس النعمة، فإذا أردت أن تحرس دوام نعم الله تعالى عليك فأدم مواساة الفقراء. والطاعة في رفع ذوي الضعة والخمول والمسكنة بغير معصية أشبه بالشكر على رفع قدرك والتنويه باسمك. والطاعة في تمريض الفقراء وتلطيف أغذيتهم أشبه بالشكر على العافية من سائر الطاعات. والطاعة في الشفاعات عند السلطان وقضاء حوائج الغربان والإخوان أشبه بذوي الحاجة من سائر الطاعات. وعلى هذا المثال ينبغي أن تقابل سائر نعم الله تعالى على العبد. ومن العبارات الجامعة للشكر أن يقال معرفة بالجنان وذكر باللسان وعمل بالجوارح.
فصل: في الكلام على الزيادة
قال الله تعالى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(ابراهيم: ٧) قال قوم: إنما خاطب الله تعالى بهذا وبقوله {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر: ٦٠) قوما دون قوم. والدليل عليه أنا نرى من يشكر على الغنى ثم يبتلى بالفقر، ومن يشكر على العافية ثم يبتلي بالمرض، والله تعالى لا يخلف