والعجم وصار حلمه يضرب به المثل، ويقتدي به الخلق ويهتدي به العقلاء، حتى حكي عنه أنه كان يقول: لو كان بيني وبين الناس خيط عنكبوت أو شعرة ما انقطعت، إذا جذبوا أرسلت وإذا أرسلوا جذبت! وهذه دولة الفرس وكانت أعظم دول الأرض وأشدها بأساً وأكثرها علوماً وحكماً، لم يكن في أكاسرها أحلم من كسرى أنوشروان، وصار يضرب بحلمه المثل وتطرز بسيرته الكتب والمصنفات. فيروى أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، لقي كبيراً من كبراء الفرس فقال له: ما أحمد خصال ملوككم؟ فقال: السبق لأزدشير وأحمدهم سيرة أنو شروان. فقال له علي: وما كان أغلب خصاله عليه؟ قال: الحلم والأناة. قال علي: هما توأمان نتيجتهما علو الهمة. وبلغ من حلمه أنه كان يضيق صدره بحمله فيقول: في خصلتان لولا أنهما ظاهرتان عند الرعية لضقت بهما ذرعاً: الحلم والأناة. فأعظم بخصلة تعم منفعتها ويبقى على الدهر جمالها، وتخلد في العقلاء
والعلماء والملوك والسوق بهجتها! وحسن مصادرها ومواردها أن يتخذها الملوك شعاراً ودثاراً، وإنما قصدت الحكماء من الملوك خاصة فأما من سواهم من الرعية فالأحنف بن قيس ونظرائه فلا يحصون عدداً وكثرة.
[الباب التاسع والعشرون: فيما يسكن به الغضب]
فأول ذلك أنك إذا نظرت إلى تغيير أشكالك وتبدل صورتك، واحمرار وجهك وانتفاخ أوداجك وذهاب حيائك، وسقط كلامك وفحش ما يخرج من فيك، لأمسكت عن الغضب. وطالما كنت تستحي أن تتكلم بين الجلساء باليسير الجائز فعدت تهدر بالكثير الفاحش، ولو أن من غضب تذكر إذ صحى وسكن غضبه انقلاب صورته وتغيير وجهه، واضطراب شفتيه وارتعاد أطرافه وسقط كلامه وفحوى خطابه، والتفاف لسانه وخفة عقله وطيشه وثوبه من مجلسه كأنه نمر، وسرعة التفاته يميناً وشمالاً كأنه قرد، وعدم فهمه لما يسمع كأنه بهيمة،، وقلة التفاته إلى من يعظه وينصحه كأنه أحمق. ومن شؤم الغضب وعظيم بليته أنه قد يقتل النفوس ويسلب الروح.
وكان سبب موت الوليد بن عبد الملك أنه وقع بينه وبين أخيه سليمان كلام، فعجل عليه سليمان بأمر يلحق أمه ففتح فاه ليجيبه، وإذا بجنبه عمر بن عبد العزيز فأمسك على فيه ورد كلمته، وقال: يا ابن عبد الملك، أخوك وابن أمك وله السبق عليك! فقال: يا أبا حفص قتلتني! قال: وما صنعت بك؟ قال: رددت في جوفي أحر من الجمر! ومال لجنبه فمات.
ولعمري إنه قد يزيد على الجفاء. ومنها أن ينتقل عن الحالة التي كان عليها إلى غيرها. كانت الفرس تقول: إذا غضب القائم فليجلس، وإذا كان جالساً فليقم، وهذا المذهب كان يؤخذ المأمون به. ويروى أن رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم القسوة فقال: اطلع في القبور واعتبر بالنشور. وكان بعض ملوك الطوائف إذا غضب ألقى بين يديه مفاتيح ترب الملوك، فيزول غضبه. وكان عكرمة يقول في قوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}(الكهف: ٢٤) ، يعني إذا غضبت، فإنه إذا ذكر الله خاف منه فيزول غضبه.
وفي التوراة مكتوب: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، ولا أمحقك فيمن أمحق. ومنها أن يذكر نفرة القلوب عنه وسقوط منزلته عند أبناء جنسه، ووصفهم لقبائحه وطيشه وسخفه، فيكون ذلك سبباً لزوال غضبه. ومنها أن يتذكر انعطاف القلوب وانطلاق الألسنة بالثناء عليه وميل النفوس إليه، وإن الحلم عز وزين وأن