للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أمره ويرتكب نهيه من أجلهم، ويقتحم جراثيم جهنم على بصيرة منهم ثم يجدهم له قالين وعنه غير راضين، ولولا أن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه لم يرض عاقل بهذه المنزلة، ولا اختارها لبيب مرتبة، وكل ما ذكرته في هذا الباب أحكمه النبي صلى الله عليه وسلم في كلمة فقال: ما لكم ولأمرائي لكم صفو أمرهم وعليهم كدره. ومثال السلطان مع الرعية كالطباخ مع الأكلة له العنا ولهم الهنا، وله الحار ولهم القار، طلب القوم الراحة فحصلوا على التعب، طلب القوم الراحة والنعيم فأخطأوا الصراط المستقيم؛ وعن هذا قالوا: سيد القوم أشقاهم. وفي الحديث: ساقي القوم آخرهم شرباً.

وكان بعض سلاطين المغرب يسير يوماً وبين يديه الوزراء إذ نظر إلى جماعة من التجار فقال لوزيره: أتريد أن أريك ثلاث طوائف: طائفة لهم الدنيا والآخرة، وطائفة لا دنيا ولا آخرة، وطائفة دنيا بلا آخرة؟ فقال: أما الذين لهم الدنيا والآخرة فهؤلاء التجار، يكسبون أقواتهم ويصلون صلاتهم ولا يؤذون أحداً، وأما الذين لا دنيا ولا آخرة فهؤلاء الشرط والخدمة الذين بين أيدينا، وأما الذين لهم الدنيا بلا آخرة فأنا وأنت وسائر السلاطين. فحق على جميع الورى أن يمدوا السلطان بالمنا والمناصحات، ويخصوه بالدعوات ويعينوه في سائر المحاولات، ويكونوا له أعيناً ناظرة وأيد باطشة وجنناً واقية وألسنة ناطقة، وقوادم تنهضه وقوائم تقله، وهيهات منه السلامة وأنى له بالسلامة؟ وعن هذا قال بعض السلاطين يوماً لأصحابه: اعلموا أن الجنة والسلطان لا يجتمعان.

قال شيخنا رحمه الله: حدثني رجل له قدر قال: أرسل إلي السلطان أن طلق زوجتك، وكان قد أرادها لبعض أصحابه، فأبيت ذلك وراجعت الرسل غير مرة، فقال لي ناصح منهم: خذ الأمر مقبلاً فإنه لا حيلة لك، فإن السلطان لا يخشى في الدنيا عاراً ولا في الآخرة ناراً! ففارقتها. وروي عن عبد الملك بن مروان أنه لما ولي الخلافة أخذ المصحف ووضعه في حجره ثم قال: هذا فراق بيني وبينك.

ولما حج هارون الرشيد لقيه عبيد الله العمري في طوافه فقال له: يا هارون! قال: لبيك يا عم! قال: كم ترى ههنا من الخلق؟ قال: لا يحصيهم إلا الله. قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عن جميعهم، فانظر كيف تكون. فبكى هارون وجلس، فجعلوا يعطونه منديلاً منديلاً للدموع، ثم قال له: والله إن الرجل ليسرف في مال نفسه فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين؟ ويقال: إن هارون كان يقول: والله إني لأحب أن أحج في كل سنة وما يمنعني إلا رجل من ولد عمر يسمعني ما أكره.

وقال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب القديمة يقول الله تعالى: من أحمق من السلطان ومن أجهل ممن عصاني ومن أغر ممن اغتر بي؟ يا راعي السوء دفعت لك غنماً سماماً صحاحاً، فأكلت اللحم وشربت اللبن وائتدمت بالسمن ولبست الصوف، وتركتها عظاماً تقعقع ولم تأو الضالة ولم تجبر الكسير، اليوم أنتقم لها منك!

[الباب السابع: في بيان الحكمة في كون السلطان في الأرض]

اعلموا أرشدكم الله أن في وجود السلطان في الأرض حكمة لله تعالى عظيمة ونعمة على العباد جزيلة، لأن الله سبحانه وتعالى جبل الخلائق على حب الانتصاف وعدم الإنصاف، ومثلهم بلا سلطان كمثل الحوت في البحر يزدرد الكبير الصغير، فمتى لم يكن لهم سلطان قاهر لم ينتظم لهم أمر ولم يستقر لهم معاش ولم يتهنوا بالحياة. ولهذا قال بعض القدماء: لو رفع السلطان من الأرض ما كان لله في أهل الأرض من حاجة. ومن الحكم التي في إقامة السلطان: إنه من حجج الله تعالى على وجوده

<<  <   >  >>