غي الكرامة التي ينالها من العامة كرهاً، ولكن في التي يستحقها بحسن الأثر وصواب التدبير. وقال عمر بن عبد العزيز: إني لأجمع أن أخرج للمسلمين أمراً من العدل، فأخاف أن لا تحمله قلوبهم فاخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فإن نفرت القلوب من هذا سكنت إلى هذا. وقال معاوية لزياد: من أسوس الناس أنا وأنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما جعل الله رجلاً حفظ الناس بسيفه كمن سمع الناس وأطاعوا له باللين. وروى أن سليم مولى زياد فخر بزياد عند معاوية فقال معاوية: اسكت! فما أدرك صاحبك بسيفه إلا أدركت أكثر منه بلساني!
[الباب الرابع والأربعون: في التحذير من صحبة السلطان]
اتفقت حكماء العرب والعجم فيوصاياهم على النعي عن صحبة السلطان. قال في كتاب كليلة ودمنة: ثلاثة لا يسلم عليها إلا القليل: صحبة السلطان وائتمان النساء على الأسرار وشرب السم على التجربة. وكان يقال: قد خاطر بنفسه من ركب البحر، وأعظم منه خطراً صحبة السلطان وقال مردك: أحق الأمور بالتثبت فيها أمر السلطان، فإنه من صحب السلطان بغير عقل فقد لبس شعار الغرور. وفي حكم الهند أيضاً: صحبة السلطان على ما فيها من العز والثروة عظيمة الخطر، وإنما تشبه بالجبل الوعر فيه الثمار الطيبة والسباع العادية والثعابين المهلكة، فالارتقاء إليه شديد والمقام فيه أشد، وليس يكافئ خير السلطان شره، لأن خير السلطان لا يعدو مزيد الحال وشر السلطان قد يزيل الحال ويتلف النفس التي لها طلب المزيد، ولا خير في الشيء الذي في سلامته مال وجاه وفي نكبه الجائحة والتلف.
ولهذا لما قيل للعتابي: لم لا تصحب السلطان على ما فيك من الأدب؟ قال: لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويردي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون. وأخبرني أبو العباس الحجازي، وكان ممن درج أرض الهند والصين وانتهى إلى صين الصين إلى جبل الياقوت بالهند، وأن فيه ثعابين عظيمة ليس في معمور الأرض أعظم منها، وأن الواحد منها ليبلغ الثور صحيحاً فلا يصل أحد إلى ذلك الجبل ولا يقربه، فإذا كثرت الأمطار أحدرت السيول منه الحصى وسائر ما فيه من المنافع إلى مستقر المياه على مسيرة أيام من الجبل، فيبحث الناس عن ذلك الحصى فيوجد فيه الواحدة بعد الواحدة من أحجار الياقوت.
وقال معاوية لرجل من قريش: إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبي ويبطش بطش الأسد! وقال المأمون: لو كنت رجلاً من العامة ما صحبت السلطان. وقال الأحنف بن قيس: ثلاثة لا أقولهن إلا ليقتدى بهن: لا أتكلف الجليسي إلا بما أحضره به ولا أدخل في أمر لا أدخل فيه، ولا آتي السلطان إلا أن يرسل إلي. وقال ابن المقفع لابنه: إن وجدت من السلطان وصحبته غناء فاغن عنه نفسك واعتز له جهدك، فإنه من يأخذه السلطان بحقه يحل بينه وبين لذات الدنيا، ومن لا يأخذه بحقه يكسبه الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة. وقال ميمون بن مهران: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا ميمون احفظ عني أربعاً ل تصحب سلطاناً وإن أمرته بالمعروف ونهيته عن المنكر، ولا تخلون بامرأة وإن أقرأتها القرآن، ولا تصل من قطع رحمه فإنه لك أقطع، ولا تتكلم بكلام اليوم تعتذر منه غداً. وفي منثور الحكم: كثرة الأشغال مذهلة عن وجود اللذات بكنهها. وكم قد رأينا وبلغنا ممن صحب السلطان من أهل العقل والفضل والعلم والدين ليصلحه ففسد هو به. فكان كما قال الأول: