واللسان لا يندمل جرحه، وأحق الناس برعاية ما رسمته من هذه الخلال، ونقلته من هذه الحكم واستودعته من هذه السيرة من آتاه الله عز وجل سلطاناً ومكن له في الأرض، فذو القدرة إذا أطاع الواشي أهلك العالم.
وكان بعض الحكماء يقول: من أراد أن يسلم من الإثم وتبقى له الإخوان فيجعل نفسه بينه وبينهم قاضياً عدلاً ويحكم بالحق، ولا يقبل أحداً في أحد ولا في نفسه إلا بشهود وتعديل، فإنا قد أحببنا بقول أقوام وأبغضنا بقول آخرين، فأصبحنا على ما فعلنا نادمين. ومن لطيف حكمة الله تعالى في النميمة: لما علم عز وجل شؤمها واستطارة شرها وعموم مضرتها في الورى، حكم بفسق النمام حتى لا يقبل له قول فيستريح الخلق من شره وقال ابن عمر رضي الله عنهما: وفد الحاج وفد الله ووفد الشيطان قوم يرسلهم السلطان إلى الناس ويسألهم عن حالهم، فيخبرونه أنهم راضون وليسوا براضين.
واعلموا أن الله تعالى خلق الإنسان على أنحاء شتى لسنا نذكرها الآن لكثرتها وطول تتبعها، فخلق الله تعالى له الحواس الشريفة والأعضاء النافعة الرئيسة، فمن أفضل ما ركب في اللسان الذي هو آلة النطق والبيان، وبه فصل بينه وبين البهائم ثم فضله على سائر الحيوان وامتن به عليه في أول سورة الرحمن فقال تعالى:{الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْأِنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}(الرحمن٤: ١) . وخلق فيه أيضاً أعضاء تذل وتستهان وجعلها مجرى لفضول الطعام والشراب، فمن تتبع سقطات الكلام وتروى عثرات الأنام التي هي كالعورات الواجب سترها ودفنها، كان قد استعمل أشرف الآلات في أخس المستعملات، فصار كمن يلحس بلسانه سؤة أخيه إذ جعل أكرم جوارحه لاحساً لأدناس المستعرضين، ورضي أن يقع من الناس موقع الذباب من الطير يتتبع نغل الجسد ويتحامى صحيحه، وقد كان له في نشر المحاسن شغل، ولكن أهل كل ذي حال أولى بها.
وفي هذا سبق المثل: إن لم تكن ملحاً تصلح فلا تكن ذباباً تفسد، ومن لم يقدر على جمع الفضائل فلتكن همته ترك الرذائل، وإذا تتبع الإمام عورات الناس أفسدهم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم هم بالخروج يوماً فشعر بأناس من أصحابه يضحكون فامتنع من الخروج إليهم حذراً أن لا يفسد قلبه عليهم. ولو علم الذي يستمع أخبار الناس ماذا جنى على نفسه لعلم أن الصمم كان أهنأ لعيشه وأنعم لباله من سماع الأخبار، فإذا علم نقلة الأخبار نفاقها عنده حملوا إليه الصدق والكذب، فيكون في سماع الكذب ممن قال الله تعالى فيهم:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}(المائدة: ٤٢) .
ويكون في سماع الصدق حمالاً للهم حرج الصدر على الخلق، معادياً لهم متتبعاً لعثرات الخلق وخزاناً لسقطاتهم، وقد وعى منهم ما يجب ستره وحفظ ما يجب نسيانه، ثم لا يستطيع الانتصاف من كل قائل لأنه إن كان ذا قدرة أهلك الرعية، ولا يستطيع أن يهلك جميع الرعية وإن كان سوقه لم يشف غيظه، ثم أفسد أحواله وأبغض من يجب أن يحب وأحب من يجب أن يبغض، فلا يزال يتحمل الحائف وتزيد الأحقاد والضغائن ويرصد لكل قائل يوماً يشفى صدره فيه، فما أغنى العاقل عن سماع هذه البلية. ولله در عمرو بن العاص رضي الله عنه إذ لا جاه رجل يوماً وقال له: أما والله إن عشت لأتفرغن لك! فقال له عمرو: والآن وقعت في الشغل يا ابن أخي والسلام.
[الباب الثامن والخمسون: في القصاص وحكمه]
قال الله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}(البقرة: ١٧٩) . يغني إذا علم القاتل والفاتك أنه