للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المستعين، فعلم المستعين أنه قد أخطأ في صنعه معه فأكرمه ورده إلى أحسن أحواله.

أيها الأجناد أقلوا الخلاف على الأمراء فلا ظفر مع الخلاف ولا جماعة لمن اختلف عليه. قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: ٤٦) فأول الظفر الاجتماع وأول الخذلان الافتراق، وعماد الجماعة السمع والطاعة، وإنما أتي علي رضي الله عنه يوم صفين وكان قد ظهر أهل العراق على أهل الشام، وتضعضعت صفوف معاوية فأحس بالشر وأنه مغلوب، فقال لعمر بن العاص: اذهب فخذ لنا الأمان من ابن عمك! يعني علياً رضي الله عنه، فأدار عمرو الحيلة وأمرهم أن يرفعوا المصاحف في أطراف الرماح وينادون: ندعوكم إلى كتاب الله تعالى. فلما رأى ذلك أصحاب علي رضي الله عنه كفوا عن الحرب فقال لهم علي رضي الله عنه: يا قوم هذه مكيدة منهم ولم يبق في القوم دفاع! فعصوه وتركوا القتال وكان ذلك سبب الحكمين.

اعلموا أن من أحزم مكائد الحرب إدكاء العيون واستطلاع الأخبار وإفشاء الغلبة، وإظهار السرور وإبانة الحذر والإحتراس من العدو، وأن لا تخرج هارباً إلى قتال ولا تضيق أماناً على مستأمن. وقال بعض المصنفين: كثرة التكبير عند اللقاء فشل. غضوا الأصوات وتجلببوا السكينة، وأقلوا اللوم واحتملوا الجبين. وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل. الليل يكفيك الجبان ويصف الشجاع، الليل المدد الأعظم. الحازم يحذر عدوه على كل حال، المواثبة إن قرب والغارة إن بعد، والكمين إن انكشف والاستطراد إذا ولى، الجهل قوة الجراءة. من اغتر بقوته فقد وهن، ليس من القوة التورط في القوة. لكن أشد ما كنت أحذر ما كنت عند نفسك أكثر قوة وعدداً. من استضعف عدوه اغتر. ومن اغتر ظفر به عدوه. أشعروا قلوبكم في الحرب الجراءة فإنها سبب الظفر، واذكروا الظعائن فإنها تبعث على الإقدام، والتزموا الطاعة فإنها حصن المحارب. إذا وقع اللقاء برز القضاء، إذا لقي السيف السيف ذهب الخيار. رب مكيدة أبلغ من نجدة. رب كلمة هزمت عسكراً. الصبر سبب النصر. الظفر مع الصبر. اجعل قتال عدوك آخر حيلك. النصر مع التدبير. لا ظفر مع بغي. لا تغتر بالأقوياء لفضل قوتك على الضعفاء لا تجبنوا عند اللقاء ولا تقتلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور ولا تغلوا عند الغنائم، ونزهوا الجهاد عن غرض الدنيا.

[الباب الثاني والستون: في القضاء والقدر والتوكل والطلب]

اعلم وفقك الله تعالى أن مذاهب أهل الحق في القضاء والقدر وخلق الأفعال وإرادة الكاينات متيسرة لله، لا يخرج عن عمله وقضائه وقدره وحكمه حادث، فمن خالفنا في القضاء والقدر وافقنا في العلم، وقد تباين الخلق فيه وتشتتت مذاهبهم وتقاطعوا فيه وتدابروا، وكل حزب بما لديهم فرحون. ولم نضع هذه الترجمة لاستيفاء ما قالوا والاحتجاج لكل فريق، لأن ذلك يستدعي مجلدات وأسفار، وإنما نذكر في هذا الكتاب أحكاماً ظاهرة قريبة من العقول لتقريب الفائدة على الناظر فيه.

فاعلم أولاً أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر، ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية بقضاء الله وقدره، كذلك لا يطير طائر بجناحيه ولا يدب حيوان على بطنه ورجليه، ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقة إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته، كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به. ثم اعلم أن القدر والطلب لا يتنافيان والتوكل والكسب لا يتضادان، وذلك أن تعلم أن كل ما قضى الله تعالى وقدره فهو كائن لا محالة، كما أن ما عمله الله تعالى أن يكون

<<  <   >  >>