للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعجبت لمن يوقن بيوم الحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال يحيى بن معاذ: عجبت من ثلاث: رجل يريد أن يتناول رزقه بتدبيره وهو يرى تناقض تدبيره، ورجل شغله هم غده، وعالم مفتون يعيب على زاهد مغبوط.

ومن أعجب ما نزل بالإسكندرية أن رجلاً من خدمة السلطان غاب عن خدمته أياماً، وقبضه الشرط وحملوه إلى دار السلطان، فانساب منهم في بعض الطريق وترامى في بئر، والمدينة مسربة تحت الأرض بأسراب يمشي الماشي فيها قائماً يخترقها ويدورها، لأن في دورها آباراً على تلك السروب، فما زال الرجل يمشي إلى أن لاح له بئر مضيئة فطلع منها. وإذا البئر في دار السلطان فطلع الرجل في دار السلطان، فأدبه السلطان فكان فيه المثل السائر: الفار من القضاء الغالب كالمتقلب في يد الطالب. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الرجل ليشرف على الأمر من الإمارة والتجارة أو غيرها، ذكره الله فوق سماواته فيقول للملك: اصرف عن عبدي هذا الأمر فإني إن أيسره له أدخله به جهنم، فيظل متغيظاً على جيرانه فيقول: سبقني فلان وحسدني فلان وما صرفه عنه إلا الله تعالى. وأنشد بعضهم:

قالوا تقيم وقد أحا

ط بك العدو ولا تفر

فأجبتهم والشيخ ما

لم ينتفع بالعلم غمر:

لا نلت خيراً ما بقي

ت ولا عداني الدهر شر

إن كنت أعلم أن غ

ير الله ينفع أو يضر

استأذن العقل على الجد فقال: اذهب فلا حاجة لي بك. فقال العقل: ولم؟ فقال: لأنك تحتاج إلي وأنا لا أحتاج إليك. وأوصى حكيم ابنه فقال: يا بني رزقك الله جداً يخدمك به ذوو العقول ولا رزقك عقلاً تخدم به ذوو الجدود. وكان يقال: إفراط العقل مضر بالجد. وروي أن رجلاً خير في أمر فأبى أن يختار وقال: أنا بجدي أوثق مني لعقلي فافرغوا. وفي الأمثال: اسع بجد لا بكد. واسع بجد ودع جدك لك ذلك الجد لا الجد. الجد أغنى من الكد. واعلم أن زمام الأمور التوفيق، ولم ينزل من السماء إلى الأرض أجل من التوفيق وهو مقرون بالاجتهاد. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت: ٦٩) . وقد كنت جمعت فيه كتاباً من جملة كتابي في الأسرار. هل التوفيق مكتسب أو موهوب بلا مزيد عليه؟ ومن لطيف ما وقفت عليه في مجال القضاء والقدر، وأن الهارب من القدر كالمتقلب في يد الطالب، ما نزل بنا في الإسكندرية في قضية الرجل الذي تقدم ذكرة.

[الباب الثالث والستون: وهو جامع من أخبار ملوك العجم وغيرهم وحكاياتهم]

وهو مشتمل على خمس فصول: الأول يشتمل على أخبار وقعت إلينا بعد فراغنا من الكتاب فألحقناها. والثاني يشتمل على حكم لحكيم الفرس خاصة. والثالث يشتمل على حكم الحكيم الهند خاصة. والرابع يشتمل على حكم لحكيم العرب خاصة. والخامس يشتمل على حكم محمودة مجموعة منتخبة، رسمنا ذلك لننظر في عقول القوم وأغراضهم ومنتهى مرامهم، من كتاب جاويدان جرد الفارسي: ثلاث لا يصلح فسادهن بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء، والركاكة في العقول. وثلاث لا يستفسد صلاحهن بنوع من المكر والحيل: العبادة في العلماء، والعقول في

<<  <   >  >>