اتكالاً على نظره في جسيمها، فإن للطيف موقعاً ينتفع به. وقد آتى الله ملك الدنيا سليمان بن داود عليهما السلام، ثم تفقد الطير فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ لأن التهاون باليسير أساس الوقوع في الكثير. وقد قال الشاعر:
لا تحقرن سبياً كم جر شراً سبيب!
وقالوا: أصل الأشياء كلها شيء واحد ولا يدع مباشرة جسيم أمره، فللجسيم موضع إن غفل عنه تفاقم، ولا يلزم نفسه مباشرة الصغير أبداً فيضع الكبير. وقال زياد لحاجبه: وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: المؤذن للصلاة، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد سخنه فسد، وصارخ الليل لشر دهاه، وصاحب البريد فإن التهاون بالبريد ساعة يخرب عمل سنة. وكان أبو العباس السفاح يقول: لأستعملن اللين حتى لا ينفع إلا الشدة، ولأكثرن من الخاصة ما أمنتهم على العامة،، ولأغمدن سيفي حتى يسله الحق، ولأعطين حتى لا أرى للعطية موضعاً. وقال أزدشير لما كمل ملكه وأباد أعداءه: إنه لم يحكم حاكم على العقول كالصبر، ولم يحكمها محكم كالتجربة، وليس شيء أجمع للعقل من خوف وحاجة يتأمل بها صفحات حاله. وكان عمر يقول: إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف والقوة في غير عنف.
وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: هل تعرف كلمات جامعات لمكارم الأخلاق، يقل لفظها ويسهل حفظها، وتكون لأغراضها لفقاً ولمقاصدها وفقاً، تشرح المنبهم وتوضح المستعجم؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، دخل أكثم بن صيفي حكيم العرب على بعض الملوك، فقال له: إني سائلك عن أشياء لا تزال في صدري معتلجة، وما تزال الشكوك عليها والجة، فأنبئني بما عندك فيها. فقال: أبيت اللعن؟ سألت خبيراً واستنبأت بصيراً، والجواب يشفعه الصواب فسل عما بدا لك. قال: ما السؤدد؟ قال: اصطناع المعروف عند العشيرة واحتمال الجريرة. قال: فما الشرف؟ قال: كف الأذى وبذل الندا. قال: فما المجد؟ قال: حمل المغارم وابتناء المكارم. قال: فما الكرم؟ قال: صدق الإخاء في الشدة والرخاء. قال: فما العز؟ قال: شدة العضد وثروة العدد. قال: فما السماحة؟ قال: بذل النائل وحب السائل. قال: فما الغنى؟ قال: الرضا بما يكفي وقلة التمني. قال: فما الرأي؟ قال: لب تعينه تجربة. فقال له الملك: أوريت زناد بصيرتي وأذكيت نار خبرتي، فاحتكم. قال: لكل كلمة هجمة. قال: هي لك؟ قال الأصمعي: قال لي الرشيد: ولك بكل كلمة بدرة. فانصرفت بثمانين ألفاً.
وكان قس بن ساعدة يفد على قيصر فيكرمه، فقال له يوماً: ما أفضل العقل؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف الرجل عند علمه. قابل: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحقوق.
[الباب العشرون: في معرفة الخصال التي هي أركان السلطان]
قال أبو جعفر المنصور: ما كان أحوجني أن يكون على بابي أربعة لا يكون على بابي أعف منهم. قيل: من هم يا أمير المؤمنين؟ قال: هم أركان الملك لا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم، فإن نقص قائمة واحدة عابه: أحدهم قاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والآخر صاحب خراج يستقضي ولا يظلم الرعية فإني غني عن ظلمهم. ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات يقول في كل مرة: آه آه؟ قيل: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وقال عمر بن الخطاب