وكان العباسيون يؤسسون لدولتهم ولا تصل أخبارهم إلى بني أمية، حتى استفحل أمرهم وضعف أمر بني أمية. وسئل مروان بن محمد الجعدي وهو آخر ملوك بني أمية: ما الذي أضعف ملكك بعد قوة السلطان وثبات الأركان؟ فقال: الاستبداد برأيي، لما كثرت علي كتب نصر بن سيار أن أمده بالأموال والرجال، قلت في نفسي: هذا رجل يريد الاستكثار من الأموال بما يظهر من فساد الدولة قبله، وهيهات أن ينتقض على خراسان فانتفضت دولته من خراسان.
[الباب الثالث عشر: في الصفات الذاتية التي زعم الحكماء أنه لا يدوم معها مملكة]
ومن أعجب العجاب دوام الملك مع الكبر والإعجاب! اعلموا أن الكبر والإعجاب يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل، لأن الكبير يكون بالمنزلة والعجب يكون بالفضيلة، والمتكبر يجل نفسه عن رتبة المتعلمين، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة المتأدبين، وحسبك من رذيلة تمنع من استماع النصح وقبول التأديب، فالكبر يكسب المقت ويمنع من التألف، وكل كبر ذكره الله تعالى في القرآن فمقرون بالشرك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: أنهاك عن الشرك بالله والكبر كأنه يحتجب في تعصب منهما. وقال أزدشير بن بابك: ما الكبر إلا فضل حمق لم يدر صاحبه أين يذهب به فصرفه إلى الكبر. وقال الأحنف بن قيس: ما تكبر أحد إلا من ذلة يجدها في نفسه، ولم تزل الحكماء تتحامى الكبر وتأنف منه. قال الشاعر:
فتى كان عذب الروح لا من خصاصة ولكن كبراً أن يقال به كبر!
ونظر أفلاطون إلى رجل جاهل معجب بنفسه فقال: وددت أني مثلك في ظنك وأن أعدائي مثلك في الحقيقة. وقالت الحكماء: وقد يدوم الملك مع معظم النقائص، فرب فقير ساد قومه ورب أحمق ساد قبيلته. منهم الأقرع بن حابس الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك الأحمق المطاع وقالوا: لا يدوم الملك مع الكبر، وحسبك من رذيلة تسلب السيادة. وأعظم من ذلك أن الله تعالى حرم الجنة على المتكبرين، فقال سبحانه وتعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً}(القصص: ٨٣) ، فقرن الكبر بالفساد فمنعنا من دخول الجنة. وقال عز وجل:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}(الأعراف: ١٤٦) .
وقال بعض الحكماء: ما رأيت متكبراً إلا تحول داؤه في عيني أني أتكبر عليه. واعلم أن الكبر يوجب المقت، ومن مقته رجاله لم يستقم حاله، ومن أبغضته بطانته كان كمن غص بالماء، ومن كرهته الحماة تطاولت إليه الأعداء. وأما الإعجاب فيحمله على الاستبداد بالرأي وترك مشاورات الرجال. ومن الصفات التي لا تقوم معها المملكة: الكذب والغدر والخبث والجور والسخف. وقال حكماء العرب والعجم: ست خصال لا تغتفر من السلطان: الكذب والخلف والحسد والجراءة والبخل والجبن، فإنه إذا كان كذاباً لم يوثق بوعده ولا بوعيده، فلم يرج خيره ولم يخف شره، ولا بهاء لسلطان لا يرهب. وقالت الحكماء: خراب البلاد وفساد العباد مقرونان بإبطال الوعد والوعيد من الملوك.