أرى الناس خلان الكرام ولا أرى
بخيلاً له في العالمين خليل!
وإني رأيت البخل يزري بأهله
فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الغنى وأتمها
إذا نال خيراً أن يكون ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرماً
ومالي كما قد تعلمين قليل
وقال عروة بن ورد العبسي:
وإني امرؤ عافٍ إنائي شركة
وأنت امرؤ عاف إنائك واحد
أتضحك مني إن سمنت وأن ترى
بجسمي شحوب الحق والحق جاهدا؟
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد!
وقال بعض الحكماء: أصل المحاسن كلها الكرم، وأصل الكرم نزاهة النفوس عن الحرام، وسخاؤها بما ملكت من الخاص والعام، وجميع خصال الخير وفروعه. وروي أنه كان عند البهلول بن راشد طعام، فغلا السعر فأمر به فبيع له، ثم أمر أن يشتري له نصف ربع القفير، فقيل له: تبيع وتشتري؟ فقال: نفرح إذا فرح الناس وتحزن إذا حزنوا. ولام رجل حاتم طيء فقال:
لعمري لقد ما عضني الجوع عضة
فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا!
فقولا لهذا اللائم الآن: اعفني
فإن أنت لم تستطع فعض الأصابعا!
وهل ترون الآن إلا طبيعة
وكيف بتركي يا ابن آدم الطبائعا؟
وقال آخر:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
لا بارك الله بعد العرض في المال!
أحتال للمال إن أودى فأجمعه
ولست للعرض إن أودى بمحتال!
ويروى أن رجلاً سأل الحسن بن علي رضي الله عنه شيئاً، فأعطاه خمسة آلاف درهم وخمسمائة دينار وقال: ائت بحمال يحمله لك! فأتى بحمال فأعطاه طيلسانة وقال: يكون كراء الحمال من قبلي! ويروى أن الليث بن سعد سألته امرأة سكرجة عسل، فأمر لها بزق عسل، فقيل له في ذلك، فقال: إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر نعمتنا. ويروى أن رجلاً استضاف بعبد الله بن عامر بن كريز، فلما أراد الرجل أن يرتحل لم تعنه غلمانه، فسأل عن ذلك فقال عبد الله: إنهم لا يعينون من يرتحل عنا؛ وفي معناه قال المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
أن لا تفارقهم، فالراحلون هم!
[الباب الحادي والثلاثون: في بيان الشح والبخل وما يتعلق بهما]
الشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها ووسواسها. وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وحملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم. وقد فرق بينهما مفرقون فقالوا: الشح أشد من البخل فإن البخل أكثر ما يكون في النفقة وإمساكها. قال الله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: ١٨٠) . وقال: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} (محمد: ٣٨) . وقال في الشح: أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا. وقال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التغابن: ١٦) . فالشح ينبني على الكزازة والامتناع، فهو يكون في المال وفي جميع منافع البدن.
وقال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله وإنما الشح أن يطمع في ما ليس له. ولهذا قال ابن المبارك: سخاء