ولما خشي المأمون انتقاض بيعته مع أهل خراسان في فتنته مع أخيه الأمين، فاستشار الفضل بن سهل وكان وزيره فقال له الفضل: قد قرأت القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي عندي أن تجمع الفقهاء وتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وبسط العدل والقعود على اللبود وتواصل النظر في كشف المظالم، وتكرم القواد والملوك وأبناء الملوك تعدهم بالمواعيد الكريمة والمراتب السنية والولايات المشاكلة، ففعل ذلك وحط عن أهل خراسان ربع الخراج، فمالت وجوه الخلائق إليه وكانوا يقولون: ابن أختنا وابن عم نبينا عليه الصلاة والسلام. وانقاد إليه رافع بن الليث وكان من عظماء الملوك بخراسان. ودخل تحت هذه الترجمة أمر اتفق عليه حكماء العرب والروم والفرس والهند وهو أن يصطنع وجوه كل قبيلة والمقدمين من كل عشيرة، ويحسن إلى حملة القرآن وحفظة الشريعة ويدني مجالسهم، ويقرب الصالحين والمتزهدين وكل مستمسك بعروة الدين.
وكذلك يفعل بالأشراف من كل قبيلة والرؤساء المتبوعين من كل نمط، فهؤلاء هم أزمة الخلق وبهم يملك من سواهم. فمن كمال السياسة والرياسة أن يبقى على كل ذي رياسة رياسته وعلى كل ذي عز عزه وعلى كل ذي منزلة منزلته، فحينئذ تكون لك الرؤساء أعواناً، ومن دانت له الفضلاء من كل قبيلة فأخلق به أن يدوم سلطانه، والعامة والأتباع دون مقدميهم وساداتهم أجساد بلا رؤوس، وأشباح بلا أرواح وأرواح بلا قلوب. ولما قامت العامة على السلطان بقرطبة ولبسوا السلاح، كان شيخ جالس على كير يعالج صنعته فقال: ما بال الناس؟ قالوا: قامت العامة على السلطان. قال: ولهم رأس؟ قالوا: لا. قال: سق الكير يا صبي! فسارت مثلاً.
[الباب الثامن والثلاثون: في بيان الخصال الموجبة لذم الرعية للسلطان]
قال حكيم الفرس: ذم الرعية للملك على ثلاثة أوجه: إما كريم قصر به على قدره ذلك طعناً، وإما لئيم بلغ به فوق قدره فأورثه ذلك بطراً، وإما رجل منع خصلة من الإنصاف. وفي الأمثال: إحسانك إلى الحر يبعثه على المكافأة، وإحسانك إلى اللئيم الخسيس يبعثه على معاودة المسألة. وقيل للإسكندر: إن فلاناً يبغضك ويسيء الثناء عليك! فقال: أنا أعلم أنه ليس بشرير، فينبغي أن نعلم هل أتاه من ناحيتنا أمر دعاه إلى ذلك؟ فبحث عن حاله فوجدها رثة، فأمر له بصلة سنية، فبلغه بعد ذلك أنه بسط لسانه بالثناء عليه فقال: أما ترون أن الأمر إلينا أن يقال فينا خيراً أو شراً؟ وينبغي للسلطان أن لا يتخذ الرعية مالاً أو قنية فيكون عليهم بلاء وفتنة، ولكن يتخذهم أهلاً وإخواناً فيكون له جنداً وأعواناً، وقد سبق المثل: إصلاح الرعية خير من كثرة الجنود.
[الباب التاسع والثلاثون: في مثل السلطان العادل والجائر]
مثل السلطان العادل مثل الياقوتة النفيسة الرقيعة في وسط العقد، ومثل الرعية مثل سائر الشذر فلا تلحظ العيون إلا الواسطة، وأول ما يبصر المبصرون وينقد الناقدون الواسطة، وإنما يثنى المثنون على الواسطة، وكلما حسنت الواسطة غمرت سائر الشذر فلا يكاد يذكر؛ كما قال ابن صعدة: لقيت بالحجاز بين مكة والمدينة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما، فكشفت عن وجه ابنتها فإذا وجه كأنه فلقة قمر، فقد أثقلتها بالجواهر واليواقيت وأنواع الدرر فالتفتت إلي وقالت: والله ما علقته عليها إلا لتفضحه. وكما أن جمال الملك أن يلي الواسطة الأفضل