للخلق رؤوفاً بهم، ليأنسوا برحمته ما يخرجه السلطان بغلظته. ومن شروطه أن يكون نقي الجيب ناصح الغيب، لا يقبل دقيقة ولا يكتم نصيحة. قال بعض الملوك لوزيره: لا تكونن إلى ما تسرني به أسرع مبادرة إلى إنذاري فيما تخاف علي منه. وقال بعض الحكماء: أعط من أتاك بما تكره كما تعطي من أتاك بما تحب، فإن من أنذر كمن بشر.
ومن شروطه أن يكون معتدلاً كليل تهامة لا حر ولا قر ولا سآمة، وموقع الوزير من الملك موقع الملك من العامة، وكما أن السلطان إذا صلح صلحت الرعية وإذا فسد فسدت الرعية، كذلك الوزراء إذا فسدوا فسد الملك وإذا صلحوا صلح الملك. وكان يقال: آفة العقل الهوى، وآفة الأمير سخافة الوزير. وقال المقتدر بالله لوزيره علي بن عيسى: اتق الله يعطفني عليك ولا تعصه يسلطني عليك. وقال المأمون لمحمد بن يزداد: إياك أن تعصي الله فيما تتقرب به إلي فيسلطني عليك. واعلم أنه ليس للوزير أن يكتم السلطان نصيحة وإن استقلها، وموضع الوزير من المملكة كموضع العين من الإنسان وكاليدين، فإنه إذا صح قبضهما وبسطهما صح التدبير، وإذا سقما دخل النقص على الجسد. ولا تصلح الوزارة أن تكون في غير أهلها، كما لا يصلح الملك أن يكون في غير أهله. وشر الوزراء من كان الأشرار أيضاً له وزراء وبطانة ودخلاء.
وأوصت امرأة ابنها وكان ملكاً فقالت: يا بني ينبغي للملك أن تكون له ستة أشياء: وزير يثق برأيه ويفضي إليه بأسراره، وحصن يلجأ إليه إذا فزع، وسيف إذا نازل الأقران لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة كانت معه، وامرأة إذا دخلت عليه أذهبت همه، وطباخ إذا لم يشته الطعام طبخ له ما يشتهيه.
[الباب الخامس والعشرون: في الجلساء وآدابهم]
قال الله تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(الزخرف: ٦٧) . وقال سبحانه:{يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً*لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}(الفرقان٢٩: ٢٨) . وينبغي للملك أن يجالس أهل العقل والأدب وذوي الرأي والحسب، وذوي التجارب والعب، فمجالسة العقلاء لقاح العقل ومادته، ولذلك حمدت آراء الشيوخ، فقال القدماء: المشايخ أشجار الوقار وينابيع الأنوار، لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم وهم. وقالوا: عليكم بآراء الشيوخ، فإنهم إن فقدوا ذكاء الطبع فقد مرت على عيونهم وجوه العبر، وتصدت لأسماعهم آثار الغير. وقالوا: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام. وقال عبد الملك لجلسائه: جنبوني ثلاثاً: لا تطغوني فإني أعرف بنفسي منكم، ولا تكذبوني فإنه لا رأي لكذوب، ولا تغتابوا عندي أحداً فيفسد قلبي عليكم. وقال بعض الحكماء: كفى بالتجارب تأديباً وبتقلب الأيام عظة.
وقالوا: التجربة مرآة العقل والغرة ثمرة الجهل. وقد قال هرم بن قطبة وهو أحد حكماء العرب، حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة: عليكم بالحديث السن الحديد النظر. وقال كثير من حكماء العرب: عليكم بمشاورة الشباب فإنهم ينتجون رأياً لم يضره طول القدم، ولا استولت عليه رطوبة الهرم، والمذهب الأول أصدق على العقول. وقال عبد العزيز بن زرارة لمعاوية: عليك بمجالسة الألباء، أعداء كانوا أو أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل. قال ابن عباس: مجالسة العقلاء تزيد في الشرف. وقال سفيان بن عيينة: إن الرجل ممن كان قبلكم ليلقى الرجل العاقل فيكون بعقله عاقلاً أياماً. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه. مر سليمان بن داود عليهما السلام بقصر بأرض مصر فوجد فيه مكتوباً: