الأمانة، ويعلم من نفسه أداء الأمانة مع الكفاية جاز له أن ينبه السلطان على أمانته وكفايته، ولهذا قال بعض العلماء من أصحاب الشافعي رضي الله عنه: من كملت فيه آلات الاجتهاد وشروط القضاء، جاز له أن ينبه السلطان على مكانه ويخطب خطبة للقضاء، وقال بعضهم: بل يجب ذلك عليه إذا كان الأمر في يد من لا يقوم به.
[الباب الخامس: في فضل الولاة والقضاة إذا عدلوا]
قال الله تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}(البقرة: ٢٥١) ، يعني لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف وينصف المظلوم من الظالم، لأهلك القوي الضعيف وتواثب الخلق بعضهم إلى بعض، فلا ينتظم لهم حال ولا يستقر لهم قرار فتفقد الأرض ومن عليها، ثم امتن الله تعالى على الخلق بإقامة السلطان، فقال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}(البقرة: ٢٥١) ، يعني في إقامة السلطان في الأرض فيأمن الناس به، فيكون فضله على الظالم كف يده وفضله على المظلوم أمانة وكف يد الظالم عنه. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. وروى كثير بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإذا عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإذا جار كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: لعمل الإمام العادل في رعيته يوماً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة سنة أو خمسين سنة. وقال قيس بن سعد: ليوم من إمام عادل خير من عبادة رجل في بيته ستين سنة. وقال مسروق: لأن أقضي بالحق يوماً أحب إلي من أن أغزو سنة في سبيل الله. وروي أن سعد بن إبراهيم وأبا سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن مصعب بن شرحبيل ومحمد بن صفوان، قالوا لسعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت: لقضاء يوم بالحق أفضل عند الله من صلواتك عمرك. وسيتضح لك صحة هذه الأقوال إذا وقفت على ما نالته الرعية من الصلاح بصلاح السلطان.
واعلم أرشدك الله أن الإنسان أعز جواهر الدنيا وأعلاها قدراً وأشرفها منزلة، وبالسلطان صلاح الدنيا، فهو إذا أعز أعلاق الدنيا وأعمها نفعاً وبركة. ولذلك خلق الله تعالى دارين: دار الدنيا ودار الآخرة، ثم كان السلطان صلاح الدارين، فأخلق بشخص يعم نفعه العباد والبلاد ويصلح بصلاحه الدنيا والآخرة، وأن يكون شرفه عند الله عظيماً كما كان قدره في العقول جسيماً، ومقامه عند الله كريماً كما كان نفعه في البلاد عميماً، وعلى قدر عموم المنفعة تشرف الأعمال، وعلى قدر النعمة تكون المنة. ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام أعم خلق الله تعالى نفعاً، فهم أجل خلق الله قدراً لأنهم تعاطوا إصلاح الخلائق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكذلك سلطان الله في الأرض هو خليفة النبوة في إصلاح الخلائق، ودعائهم إلى فناء الرحمن وإقامة دينهم وتقويم أودهم، وليس فوق السلطان العادل منزلة إلا نبي مرسل أو ملك مقرب.
فاتخذ عظم قدر السلطان عندك حجة لله تعالى على نفسك وناصحه على قدر ما نفعك، وليس نفعه مقصوراً على عجالة من حطام الدنيا يحبوك بها، ولكن صيانة جمجمتك