للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كانت تعقل هذا القدر إذ لا يجب بالعقل شيء ويشهد له قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: ١٥) . فالجواب: إنها ليست مكلفة لأنه من ضرورة التكليف أن يعلم الرسول والمرسل، وذلك من خصائص العقلاء وهم الثقلان، فإذا لم يكونوا مكلفين كانوا في المشيئة يفعل الله بهم ما أراد، كما سلط عليهم في الدنيا الإستسخار والذبح فلا اعتراض عليه، ولله تعالى أن يفعل في ملكه ما أراد من تنعيم وتعذيب، وإذا جاز أن يؤلم البهيمة ابتداء جاز أن يؤلمها بعد جنايتها. والآية محمولة على من يعلم الرسول والمرسل، ويجوز أن الله تعالى خلق لها العلم الضروري بالعلم من ذلك، ثم إن لم يجر عليها القلم في الدنيا فإنما رفع عنها في الأحكام ولكن فيما بينهم يؤاخذون به.

وقد روى البخاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام. فهذه عجماه عوقبت على سوء صنيع جنسها. وفيه دليل على أن الله تعالى يعذب بملكه لا بالمعصية. وقد ضرب موسى عليه السلام الحجر الذي فر بثوبه وبنوا إسرائيل ينظرون عورته؛ رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فضربه بعصاء والحجر يفر وموسى يقول ثوبي حجر ثوبي حجر! قال أبو هريرة: فوالذي نفسي بيده إنه ندب الحجر ستة أو سبعة. وروى في تفسير قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (البقرة: ٢٤) . إنها الحجارة التي نكبت الناس في الدنيا وروي أن المسيح عليه السلام مر بجبل فسمع أنينه فسأله عن ذلك، فقال: سمعت الله تعالى يقول: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فلا أدري أكون من تلك الحجارة أم لا. وقد تأول بعضهم قول ابن عباس رضي الله عنهما "حشرها موتها" تحشر لضرب من القصاص بينها ثم تصير تراباً. قلت: وتأويل ابن عباس رضي الله عنهما بعيد، لأن الحشر وليس في موتها جمعها بل فيه تفرقتها وتفرقة أجزائها ثم قال إلى ربهم يحشرون، وإنما يكون الحشر إلى الرب تعالى بإعادة الحياة إليها وجمعها إلى ربها جل وعلا.

[الباب التاسع والخمسون: في الفرج بعد الشدة]

قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} (الشورى: ٢٨) وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (النمل: ٦٢) وقال تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح: ٦) . وقال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا فقد جاءكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين! وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لو كان العسر في حجر لطلبه اليسر، لن يغلب عسر يسرين، ومعنى الآية أنه لما عرف العسر ونكر اليسر، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفاً ثم أعادته فهو هو، وإذا نكرته ثم كررته فهو اثنان. وقال بعضهم:

إن يكن نالك الزمان ببلوى

عظمت عندها الخطوب وجلت

وتلتها قوارع ناكبات

سئمت دونها الحياة وملت

فاصطبر وانتظر بلوغ مداها

فا لرزايا إذا توالت تولت

وإذا أوهنت قواك وحلت

كشفت عنك حمله فتجلت

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل عليه السلام، اتخذت منطقاً لتخفي أثرها عن سارة ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلاء المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعها هناك ووضع عندها جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم صلى الله عليه وسلم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت

<<  <   >  >>