للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النفس بما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل. وقال رجل لابن مسعود: إني أخاف أن أكون قد هلكت، سمعت الله يقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التغابن: ١٦) . وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء. فقال: ليس بالشح الذي ذكره الله تعالى ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل! ففرق بينهما كما ترى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يتبع هواه فلم يقبل الإيمان. وقال طاوس: الشح أن يبخل المرء بما في أيدي الناس، والبخل أن يبخل بما في يديه. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة.

وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه ولم يدعه الشح أن يمنع شيئاً أمره الله به، فقد وقاه شح نفسه. وقال أبو التياح الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يقول: اللهم قني شح نفسي ولا يزيد على ذلك شيئاً. فسألته عن ذلك فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أقتل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. واعلم أن البخل يكون من سوء الظن بالله تعالى أن لا يخلف ولا يثيب، وهذا يوهن التصديق بما تكفل الله به ويطرق الخلل والامتناع إلى جميع الأوامر بين العبد وبين الخالق، وبين العبد والخلق في ترك معاونتهم والنصح لهم. وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشح أضر من الفقر لأن الفقير إذا وجد اتسع والشحيح لا يتسع أبداً.

ولما قدم الشافعي رضي الله عنه من صنعاء إلى مكة كان معه عشرة آلاف دينار، فقالوا له: تشتري بها ضيعة. فضرب خيمته خارج مكة وصب الدنانير، فكل من دخل عليه كان يعطيه قبضة، فلما جاء وقت الظهر قام ونفض الثوب ولم يبق معه شيء. ولما قربت وفاته قال: مروا فلاناً يغسلني. وكان الرجل غائباً فلما قدم أخبر بذلك، فدعى بتذكرته فوجد عليه سبعين ألف درهم ديناً فقضاها وقال: هذا غسلي إياه. وروي أن رجلاً أراد أن يؤذي عبد الله بن عباس فأتى وجوه البلد وقال: يقول لكم ابن عباس تغدوا اليوم عندي. فأتوه فملئوا الدار فقال: ما هذا؟ فأخبر الخبر فأمر أن تشتري الفواكه في الوقت وأمر بالخبز والطبيخ فأصلح القرى، فلما فرغ قال لوكلائه: أموجود لنا هذا كل يوم؟ قالوا له: نعم. قال: فليتغد هؤلاء كل يوم عندنا. ومن الخصال الجارية مجرى الكمال والجمال ولعلها من الأصول الصبر، والله الموفق للصواب.

[الباب الثاني والثلاثون: في الصبر]

الصبر زمام سائر الخصال وزعيم الغنم والظفر، وملاك كل فضيلة وبه ينال كل خير ومكرمة. قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: ١٣٧) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: ١٠) . فمعظم وظائف الدين ذكر الله تعالى ورسوله جزاء معلوماً لمن أقامها إلا الصبر فإنه بغير حساب. قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} (السجدة: ٢٤) . قيل عن الدنيا. وقال ابن عيينة: لما أخذوا برأس الأمر جعلهم الله رؤساء. وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (الحجر: ٩٧) . وقال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: ٣٣) . وقال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} (آل عمران: ١٨٦) . ثم ندبهم إلى الصبر مع وجود الأذى فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران: ١٨٦)

فالصبر حبس النفس عن الأوامر والمكاره وعن النواهي والمعاصي. ألا ترى أن أهل الجنة نودوا فقيل لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد: ٢٤) . فأخبر الله تعالى أنه آتاهم جنته بصبرهم، يعني صبرتم على

<<  <   >  >>