وقال المسيح عليه السلام: ما حلم من لم يصبر عند الجهل، وما قوة من لم يرد الغضب، وما عبادة من لم يتواضع للرب تعالى؟ وقيل للإسكندر: إن فلانا وفلاناً ينقصانك ويثلبانك فلو عاقبتهم! فقال: هم بعد العقوبة أعذر في ثلبي وتنقيصي. ويروى عن جرير بن عبد الله: بينما هو راكب قد أردف ابنه إذ لقيه رجل فنال منه وجرير ساكت، فلما ولي قال له ابنه: يا أبت لم سكت عنه؟ قال له: يا بني إذن أوسع جرحي. وقال بعض الحكماء: متى أشفي غيظي، أحين أقدر فيقال لو عفوت، أم حين أعجل فيقال لو صبرت؟ وسئل بعض أصحاب الأحنف: أكان الأحنف يغضب؟ قال: نعم، لو لم يغضب ما بان حلمه، كان يغضبه الشيء فيتبين في وجهه اليومين والثلاثة وهو يصبر ويحلم.
ومن لم يغضب من الأشياء التي مثلها فقد فقد من الفضائل الشجاعة، والأنفة والحمية والدفاع والأخذ بالثأر والغيرة، فإن هذه الخصال نتائج الغضب، فمن فقد الغضب فقد فقد أس الفضائل على ما سنذكره في باب الشجاعة، إن شاء الله. وقيل: عند فقد الشجاعة تكون المهانة، ومن المهانة يكون سفساف الأخلاق ورذالة الطباع، فلا يبقى لسائر فضائله موقع. وكان يقال: من لم يغضب فليس بحليم، لأن الحليم يعرف عند الغضب. وقال الشعبي: الجاهل خصم والحليم حاكم. قال الشافعي رضي الله عنه: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، ومن استرضي ولم يرض فهو جبار. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب، ولكنه إنما كان يغضب لا لنفسه بل عند انتهاك حرمة ربه. واعلم أن الله تعالى ما مدح من لم يغضب، وإنما مدح من كظم الغيظ فقال:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}(آل عمران: ١٣٤) . وقد أنشد النابغة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم:
فلا خير في علم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فلم ينكر النبي قوله. وكان عمر رضي الله عنه إذا سافر استتبع سفيهاً ويقول: أدفع به شر السفهاء عني! واعلموا أرشدكم الله أن أحسن خصال الملوك وأجلها قدراً، وهي حلية الأنبياء ولبسة الأصفياء والأولياء، وأعملها على الرعايا نفعاً وأخلدها على ممر الأيام ذكراً، وأجلها في المحافل والمجالس نشراً، وهي الفضيلة التي تعم سائر الفضائل وتكمل بها سائر المحاسن، وهي الحلم. وها أنا أتلو عليك من ذلك ما يقضى فيه بالعجب: هذه دولة آل العباس أولهم أبو العباس السفاح إلى يومنا هذا لم يكن يفهم أحلم من المأمون، بلغ من حلمه أنه كان يقول: لو يعلم الناس ما لي في لذة العفو ما تقربوا إلي إلا بالجرائم! فعم حلمه سائر خلفاء بني العباس حتى صار يضرب المثل بحلمه. وبهذه الخصلة تهيأ ملكه وقهر أخاه الأمين. ومنها دولة بني أمية، أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان الجعدي، لم يكن فيهم أحلم من معاوية لا جرم أن دانت له الدنيا، وملك بها رقاب العرب