وقيل يوماً للأحنف بن قيس: ما أحلمك! فقال: لست بحليم ولكني أتحالم، والله إني لأسمع الكلمة فأحم لها ثلاثاً، ما يمنعني من جوابها إلا الخوف من أن أسمع ما هو شر منها! وقال الشاعر:
وليس يتم الحلم للمرء راضياً
إذا كان عند السخط لا يتحلم
كما لا يتم الجود للمرء موسراً
إذا كان عند العسر لا يتجشم
ويروى أن رجلاً سب جعفر بن محمد رضي الله عنهما، فقال: أما ما قلت مما هو فينا فإنا نستغفر الله منه، وما قلت مما ليس فينا فإنا نكلك فيه إلى الله تعالى. وقال بعض الحكماء: احذروا الغضب، فرب غضب استحق الغضبان به غضب الله تعالى. وقال أكثم بن صيفي: لا يكون الرجل حليماً حتى يقول السفيه أنه لضعيف مستذل، ولا يكون مخلصاً حتى يقول الأحمق أنه لمفسد. ومن أشعر بيت قيل في الحلم قول كعب بن زهير:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا
أصبت حليماً أو أصابك جاهل
ووصف أعرابي رجلاً فقال: أحلم من فرخ طائر. وقال أعرابي: إن الغضب عدو العقل، ولذلك يحول بين صاحبه وبين العقل. وقال صعصعة بن صوحان: الغضب مرقدة العقل، فربما أصلده وربما أربده. وقال أعرابي: إذا جاء الغضب تسلط العطب. وكان ابن عون إذا غضب على أحد قال: سبحان الله بارك الله فيك! وقال الأصمعي: دفع أزدشير إلى رجل كان يقوم على رأسه كتاباً وقال: إذا رأيتني قد اشتد غضبي فادفعه إلي. فكان فيه: اسكن فلست بإله، إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً، وتصير عن قريب للدود والتراب! وهذه السيرة أول من سنها ملك تبع، أمر أن يكتب في كتاب: اسكن فلست بإله! وقال لصاحبه: إذا غضبت فاعرضه علي. فكان إذا غضب عرضه عليه، فإذا قرأه سكن غضبه. وقال معاوية: أفضل ما أعطي الرجل العقل والحلم، فإذا ذكر ذكروا وإذا أعطى شكر، وإذا ابتلي صبر وإذا غضب كظم، وإذا قدر عفا وإذا أساء استعفى وإذا وعد أنجز.
ومن كلام الحكماء: من أطاع الغضب حرم السلامة، ومن عصى الحق غمره الذل. وقال بعض الحكماء: كظم الغيظ حلم والحلم صبر، والتشفي ضرب من الجزع. وقال آخر: أول الغضب جنون وآخره ندم. وقال بعض الحكماء: إذا غلب على الرجل أربع خصال فقد عطب: الرغبة والرهبة والشهوة والغضب. وقيل لبعض الصالحين: إن فلاناً يقع فيك بقول. فقال: لأغيظن من أمره يغفر الله لي وله! قيل له: ومن أمره؟ قال: الشيطان. وقال رجل لأخيه: إني مررت بفلان وهو يقع فيك ويذكرك بأشياء رحمتك منها. قال: فهل سمعتني أذكره بشيء؟ قال: لا. قال: فإياه فارحم، وقال الفضيل: ثلاثة لا يلامون على الغضب: المريض والصائم والمسافر. وقال الأحنف بن قيس: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم المنقري. إني لجالس معه في فناء بيته وهو يحدثنا إذ جاءت جماعة يحملون قتيلاً، ومعهم رجل مأسور فقيل له: هذا ابنك قتله أخوك! فوالله ما قطع حديثه ولا حل حبوته حتى فرغ من منطقته، ثم أنشد:
أقول لنفسي تصبيراً وتعزية:
إحدى يدي أصابتني، ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه
هذا أخي حين أدعوه، وذا ولدي
ثم التفت إلى بعض ولده وقال: قم أطلق عمك ووار أخاك التراب، وسق إلى أمه مائة من الإبل فإنها