وأينعت ثماره وزكت بركاته، فكانوا جميعاً في أمان من الضيعة لا يخافون فقراً ولا شتاتاً، وإن هو رغب في غلته وجبايته ولم ينفق فيه ما يكفيه ولا ساق إليه من الماء ما يرويه رغبة في الغلة وضناً بالمال، ضعفت عمارته ورقت أشجاره وقلت ثماره وذهبت غلته، ومحق الدهر ما جنى من غلته فافتقر القوم وهلكوا وتشتتوا.
ومثال الملك في جمع المال ليتقوى به على الأعداء مثال طائر ينتف ريشه ويمص أصوله، ويأكل ما نعم منها فلذ له طيبها وأعجبه خصب جسمه على ذلك، فلم يزل كذلك حتى خف ريشه فسقط إلى الأرض فأكلته الهوام والحشرات. ورأيت في أخبار بعض الملوك أن وزيره أشار عليه بجمع الأموال واقتناء الكنوز وقال: إن الرجال وإن تفرقوا عنك اليوم فمتى احتجتهم عرضت عليهم فتهافتوا عليك، فقال الملك: هل لذلك من دليل؟ قال: نعم هل بحضرتنا الساعة ذباب؟ قال: لا. فأمر بإحضار جفنة فيها عسل فحضرت، فتساقط عليها الذباب لوقتها فاستشار السلطان بعض أصحابه في ذلك فنهاه عن ذلك وقال: لا تغير قلوب الرجال فليس في كل وقت أردتهم حضروا قال: هل لذلك من دليل؟ قال: نعم إذا أمسينا سأخبرك. فلما أظلم الليل قال للملك: هات الجفنة بالعسل. فحضرت ولم تحضر ذبابة واحدة.
وقد روينا عن سيرة بعض السلاطين في أرض مصر، وكان قد ملكها وكان اسمه بلد قوزانه، كان يجمع الأموال ولا يحفل بالرجال، فقيل له: إن أمير الجيوش بالشام يتواعدك وكائنه قادم عليك، فاستعد الرجال وأنفق فيهم الأموال، فأوما إلى صناديق موضوعة عنده وقال: الرجال في الصناديق، فغزا أمير الجيوش ذلك الملك في مصر وقتله وتسلم الصناديق والملك، فكان رأيه رأياً فاسداً لأن رجالاً يقيمهم لوقته ويصطنعهم لحاجته، إنما يكونون أجناداً مجمعين وشرذمة ملفقين، ليس فيهم غنى ولا عندهم دفاع ولا ممارسة للحروب.
ومن السير المروية في هذا الباب أنه لما فتحت العراق جيء بالمال إلى عمر. فقال صاحب بيت المال: أأدخله بيت المال؟ قال: لا ورب الكعبة لا يؤوى تحت سقف بيت حتى نقسمه! فغطى في المسجد بالأنطاع وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار. فلما أصبح نظر إلى الفضة والذهب والياقوت والزبرجد والدر يتلألأ فبكى، فقال له العباس أبو عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين والله ما هذا يوم بكاء ولكنه يوم شكر وسرور! فقال: إني والله ما ذهبت حيث ذهبت ولكنه والله ما كثر هذا في قوم إلا وقع بأسهم بينهم. ثم أقبل على القبلة ورفع يديه وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً، فإني أسمعك تقول:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}(الأعراف: ١٨٢) ثم قال: أين سراقة بن مالك بن جعشم؟ فأتي به وكان أشعر الذراعين دقيقهما فأعطاه سواري كسرى وقال: البسهما. ففعل ذلك فقال: قل الله أكبر. قال: الله أكبر. ثم قال: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة رجلاً أعرابياً من بني مدلج، ثم قلبهما وقال: إن الذي أدى هذا الأمين! فقال له رجل: أنا أخبرك أنت أمين الله تعالى وهو يؤدون إليك ما أديت إلى الله، فإذا رتعت رتعوا قال: صدقت وإنما ألبسهما سراقة لأن النبي صلى الله عليه وسلمقال لسراقة ونظر إلى ذراعيه: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ ولم يجعل له إلا السوارين.
ولما ولي أبو بكر الصديق جاءه مال من العمال، فصب في المسجد وأمر فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم دين فليحضر. قال أبو أيوب الأنصاري: فقلت حينئذ: