للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الأمن ونتاجه العدل، وهو حسن السلطان ومادة الملك، والمال أقوى العدد على العدو وهو ذخيرة الملك وحياة الأرض، فمن حقه أن يؤخذ من حقه ويوضع في حقه ويمنع من السرف، ولا يؤخذ من الرعية إلا ما فضل عن معاشها ومصالحها ثم ينفق ذلك في الوجوه التي يعود نفعها عليها. فيا أيها الملك احرص كل الحرص على عمارة الأرضين والسلام. ويا أيها الملك مر جباة الأموال بالرفق ومجانبة الخرق، فإن العلقة تنال من الدم بغير أذى ولا سماع صوت ما لا تناله البعوضة بلسعتها وهول صوتها. ولما عزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص رضي الله عنه عن مصر استعمل عليها ابن أبي السرح، فحمل من المال أكثر ما كان يحمل عمرو بن العاص، فقال عثمان: يا عمرو أشعرت أن اللقاح درت بعدك؟ فقال عمرو: ذلك لأنكم أعجفتم أولادها. نن

وقال زياد: أحسنوا إلى المزارعين فإنكم لن تزالوا سماناً ما سمنوا، وفي منثور الحكم من جاوز في الحلب حلب الدم. وفي الأمثال: إذا استقصى العجل مص أمه رفسته. وقال جعفر بن يحيى: الخراج عمود الملك وما استعزز بمثل العدل وما استذلل بمثل الظلم، وأسرع الأمور في خراب البلاد وتعطيل الأرضين وهلاك الرعية وانكسار الخراج الجور والتحامل. ومثل السلطان إذا حمل على أهل الخراج حتى ضعفوا عن عمارة الأرضين مثل من يقطع لحمه ويأكله من الجوع، فهو وإن قوي من ناحية فقد ضعف من ناحية، وما أدخل على نفسه من الوجع والضعف أعظم مما دفع عن نفسه من ألم الجوع. ومثل من كلف الرعية من الخراج فوق طاقتها كالذي يطين سطحه بتراب أساس بيته، ومن يدمن هز العمود يوشك أن يضعف وتقع الخيمة، وإذا ضعف المزارعون عجزوا عن عمارة الأرض فيتركونها فتخرب الأرض ويهرب الزارع، فتضعف العمارة ويضعف الخراج وينتج ذلك ضعف الأجناد، وإذا ضعف الجند طمعت الأعداء في السلطان.

أيها الملك، كن بما يبقى في يد رعيتك أفرح منك بما تأخذ منها. لا يقل مع الصلاح شيء ولا يبقى مع الفساد شيء. وصيانة القليل تربية للجليل، ولا مال لأخرق ولا عيلة لمصلح. وروي أن المأمون أرق ذات ليلة، فاستدعى سميراً فحدثه بحديث فقال: يا أمير المؤمنين كان بالبصرة بومة وبالموصل بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها فقالت بومة البصرة: لا أنكحك ابنتي إلا أن تجعلي في صداقها مائة ضيعة خراباً. فقالت بومة الموصل: لا أقدر عليها الآن ولكن إن دام والينا سلمه الله علينا سنة واحدة فعلت لك ذلك! قال: فاستيقظ لها المأمون وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض وتفقد أمور الولاة.

وسمعت بعض شيوخ بلاد الأندلس من الجند وغيرهم يقولون: ما زال أهل الإسلام ظاهرين على عدوهم وأمر العدو في ضعف وانتقاص، لما كانت الأرض مقتطعة في أيدي الأجناد فكانوا يستغلونها ويرفقون بالفلاحين، ويربونهم كما يربي التاجر تجارته، فكانت الأرض عامرة والأموال وافرة والأجناد متوفرين، والكراع والسلاح فوق ما يحتاجون إليه، إلى أن كان الأمر في آخر أيام ابن أبي عامر، فرد عطايا الجند مشاهرة وأخذ الأموال على النطع وقدم على الأرض جباة يجبونها، فأكلوا الرعايا واحتجبوا أموالهم واستضعفوهم، فهربت الرعايا وضعفوا عن العمارة، فقلت الجبايات المرتفعة إلى السلطان وضعفت الأجناد، وقوي العدو على بلاد المسلمين حتى أخذ الكثير منها، ولم يزل أمر المسلمين في نقص وأمر العدو في ظهور إلى أن دخلها المأمون، فرد الإقطاعات كما كانت في الزمان القديم، ولا

<<  <   >  >>