للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن تكون جليلة القدر عظيمة الخطر! وأحوج خلق الله تعالى إليها أفقرهم إلى عطف القلوب عليه وصرف الوجوه إليه الملوك والولاة.

واعلموا يا معشر من وسع الله عليه دنياه وأسبغ عليه آلاءه ونعماه أنه ليس في الجنة لا، وحسبك بكلمة لا تدخل الجنة سقوطاً وضعة، وإنما أسست الجنة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ولهذا وصف بعض البخلاء رجلاً بخيلاً فقال: هو جملة من حيث جئته وجدت لا! وقالوا في نحو هذا: فلان حسبه لا. وهذه الخصلة أعني الكرم والجود والسخاء والإيثار بمعنى واحد، يوصف البارئ تعالى بالجود ولا يوصف بالسخاء، كما يوصف بالعلم ولا يوصف بالعقل لعدم التوقيف. وحقيقة الجود أن لا يصعب عليه البذل، ويقال السخاء هو الرتبة الأولى ثم الجود ثم الإيثار. فمن أعطى البعض وأمسك البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر فهو صاحب جود، ومن آثر غيره بالحاضر وبقي هو في مقاساة الضر فهو صاحب إيثار. قال ذو النون: بداءة السخاء أن تسخو نفسك بما في يديك، ونهايته أن تسخو نفسك بما في أيدي الناس وأن لا تبالي من أكل الدنيا.

وتذاكر قوم من الزهاد عند رابعة العدوية، فجعلوا يذمون الدنيا ويكثرون من ذلك، فقالت رابعة: من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وأصل السخاء هو السماحة وأن يؤتي ما يأتيه عن طيب نفس، وقد يكون المعطي بخيلاً إذا صعب عليه البذل، والممسك سخياً إذا كان لا يستصعب العطاء وإن منع. ولهذا قال علماؤنا إن الله تعالى لم يزل جواداً، وإن لم يقع منه عطاء في الأزل، لأن العطاء فعل والفعل في الأزل مستحيل. وقالت الحكماء: أيها الجامع لا تجزعن، فالمأكول للبدن والموهوب للمعاد والمتروك للعدو! قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩) .

قال أبو هريرة رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جائع فأطعمني! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه فقلن: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما عند رسول الله ما يطعمك الليلة. ثم قال: من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه الله تعالى. فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فحمله إلى منزله وقال لأهله: هذا ضيف النبي صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئاً. فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية! فقال: قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا ثم اسرجي واقعدي، فإذا أخذ الضيف يأكل، قومي تصلحين السراج فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت وجعلا يمضغان ألسنتهما والضيف يظن أنهما يأكلان وباتا طاويين. فلما أصبحا ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إليهما تبسم ثم قال: لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة ونزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: ٩) . وقال أنس: أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوية وكان مجهوداً، فوجه به إلى جار له، فوجه به الجار إلى أهل بيت آخر، فتداولته سبعة أبيات حتى عاد إلى الأول، فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية. وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي في القتلى، ومعي شيء من الماء وأنا أقول إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى فقلت له: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فإذا رجل يقول: آه! فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت له: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه! فأشار هشام أن أنطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام فوجدته قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي فوجدته قد مات.

وروت عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: السخي قريب من الله

<<  <   >  >>