رضيت وقد أرضى إذا كان مسخطي
من الأمر ما فيه رضى صاحب الأمر
وقيل في معناه:
سأصبر كي ترضى وأتلف حسرةً
وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري!
قال شيخنا: وثكلك لمن تحبه أعظم من ثكلك لنفسك، هذا أيوب عليه السلام لما أصيب بنفسه قال مسني الضر، ويعقوب لما أصيب بحبيبه قال يا أسفي على يوسف! قال أحمد: قال لي أبو سليمان الداراني أتدري بماذا أزال العقلاء الملامة عمن أساء إليهم؟ قلت: لا. قال: لعلمهم أن الله تعالى ابتلاهم بذلك فصبروا، ويروى أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: أنزلت بلائي بعبدي فدعاني فماطلته بالإجابة، فشكاني فقلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك؟ وقيل في قوله تعالى {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} (المعارج: ٥)
إنه الصبر الذي لا شكوى فيه ولا بث، قال أنس: ما صبر من بث. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تستغزروا الدموع بالتذكر. قال الشاعر: ولا يبعث الأحزان مثل التذكر ومما يعين على عظم الأسى وشدة الجزع تذكر المسار المنقضية وتصور المضار الذاهبة، وكثرة الشكوى وتردد الأسف. قال الشاعر:
لا تكثر الشكوى إلى الصديق
وارجع إلى الخالق لا المخلوق
لا تخرج الغريق بالغريق
وفي منثور الحكم: المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين. واعلم أنه قل من صبر على شدة إلا نال ما يرجوه من فرج، وينبغي لمن نزلت به مصيبة أو كان في شدة أن يبتغي تسهيلها على نفسه، ولا يغفل عن تذكر ما يتيقنه من وجوب الفناء وتقضي المسار، وأن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لا ثقة له، ومن صح فيها سقم ومن سقم فيها برم، ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن، حلالها حساب وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، لا خير يدوم ولا سرور يبقى، ولا فيها لمخلوق بقاء، فإذا تصور حقيقتها فحينئذ يرى الحوادث سهلة والمصائب هينة. قال الشاعر:
يمثل ذو اللب في نفسه
يمثل ذو اللب في نفسه
فإن نزلت بغتة لم ترع
هـ لما كان في نفسه مشغلا
رأى الأمر يفضي إلى آخر
فصير آخره أولا
وقال بعض الحكماء من حاذر لم يخدع ومن راقب لم يهلع، ومن كان متوقعاً لم يلق متوجعاً ومن لم يشعر نفسه ما ذكرنا من أحوال الدنيا، وتقضي المسار ثم الثواء في اللحود بين أطباق الثرى والجنادل، قد فارقه الأحباء وأسلمه الأولياء، وهجر القرباء والبعداء ألفته الحوادث واثقاً فسلبته الصبر وضاعفت عليه الأسى. وقال ابن الرومي:
إن البلاء يطاق غير مضاعف
فإذا تضاعف فهو غير مطاق
وقال آخر:
تعودت مس الضر حتى ألفته
وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
ووسع صدري للأذى كثرة الأذى
وإن كنت أحياناً يضيق به صدري
وحسن لي يأسي من الناس كلهم
لعلمي بصنع الله من حيث لا أدري
ولبعض الأعراب:
تعز فإن الصبر بالحر أجمل
وليس على ريب الزمان معول
فلو كان يغني أن يرى المرء جازعاً
لنائبة أو كان يغني التذلل