عظيمة عليه، أوهن بها سلطانه ووضع عند الخاص والعام قدره، وأطلق ألسنة الخلق بالشتم والثناء القبيح على نفسه، فحاربه بذلك أخوه المأمون على الولاية ووجه طاهر بن الحسين لمحاربته ببغداد، وحاربه حتى قتله وأنفذ برأسه إلى المأمون، وكان يعمل كتباً تقرأ على المنابر من خراسان فيقف الرجل فيذم أهل العراق فيقول: أهل فسوق وخمور وماخور! ويعيب الأمين بذلك فيقول: استصحب أبا نؤاس رجلاً شاعراً ماجناً كافراً، يستصحبه معه لشرب الخمور وارتكاب المآثم ونيل المحارم. وهو القائل:
ألا فاسقني خمراً وقل لي: هي الخمر!
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر!
حتى تغيرت عليه نفوس الخلق وتنكرت له وجوه الورى، فلما بلغ ذلك الأمين حبسه، ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه أن لا يشرب خمراً ولا يقول فيه شعراً. فمتى أراد السلطان إصلاح رعيته وهو متماد على سيئ أخلاقه، كان كمن أراد بقاء الجسد مع فقد رأسه، أو أراد استقامة الجسم مع عدم حياته، وكمن أراد تقويم الضلع مع اعوجاج الشخص، وكيف يحيا النون مع فساد الماء؟ ولقد أصاب الخليل في قوله: أصلح نفسك لنفسك يكون الناس تبعاً لك وقديماً قيل: من أصلح نفسه أرغم أنف أعاديه، ومن أعمل جده بلغ كنه أمانيه. وسئل بعض الحكماء: بم ينتقم الإنسان من عدوه؟ قال: بإصلاح نفسه. ولأبي الفتح البستي:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً
فاحكم على ملكه بالويل والحرب!
أما ترى الشمس في الميزان هابطةً
لما غدا وهو برج اللهو والطرب؟
وصحبة الأشرار تورث البوار وصحبة الأخيار تقتل النار، وصحبة الأخيار تقتل النار، وصحبة الأشرار كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيبا، فمحال إصلاح رعيتك وأنت فاسد وإرشادهم وأنت غاو وهدايتهم وأن تضال. وقد سبق المثل: من العجائب أعمش كحال. وتقول العرب: يا طبيب طبب نفسك. وكيف يقدر الأعمى على أن يهدي والفقير على أن يغني والذليل على أن يعز، فبعدك عن تطهير غيرك من العيوب قبل تطهير نفسك، كبعد الطبيب عن إبراء غيره من داءٍ به مثله. وقال بعض حكماء الهند: لن يبلغ ألف رجل في إصلاح رجل واحد، بحسن القول دون حسن الفعل، ما يبلغ رجل واحد في إصلاح ألف رجل بحسن الفعل دون القول. وفيه قول القائل:
يا أيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
ما زلت تلقح بالرشاد عقولنا
صفة وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم!
ولكن أقوى الأسباب في صلاحهم عند قوة صلاحه استعماله عليهم الخاصة منهم، وذوي الأحلام الراجحة والمروآت القائمة والأذيال الطاهرة، فمتى كان رأس العامة سراتهم فهو الطريق إلى حفظ أديانهم ومروآتهم، وتماسكهم عن الانهماك في المحظورات وملابسة المحرمات. قال الشاعر: