للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سائلاً وراحم يصير مرحوماً فهذا يوسف الصديق عليه السلام انظر إلى ضعفه في يدي أخوته يوم الجب ثم ضعفهم بين يديه يوم الصواع. وهذه زليخا ملكة مصر وسيدة أهلها عادت تتكفف في الطرقات.

قال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} (الأعراف: من ١٣٧) وكان يوسف بعد هذا يجوع ويأكل خبز الشعير ولا يشبع فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائعين. وقد رأيت أن أتحفك بمنقبة في مثلها يتنافس العقلاء ويرغب فيها الملوك والوزراء، وذلك أني لما كنت بالعراق وكان الوزير نظام الملك الغالب على ألقابه خوجه بزرك رحمه الله، قد وزر لأبي الفتح ملك الترك ملك شاه بن البارسلان، وكان قد وزر لأبيه من قبله فقام بدولتهما أحسن قيام، فشد أركانهما وشيد بنيانهما واستمال الأعداء ووالى الأولياء، واستعمل الكفاة وعم إحسانه العدو والصديق والمبغض والحبيب والبعيد والقريب، حتى ألقى الملك بجرانه وذل الخلق لسلطانه.

وكان الذي مهد له ذلك بإذن الله تعالى وتوفيقه أنه أقبل بكليته على مراعاة حملة الدين، فبنى دور العلم للفقهاء وأنشأ المدارس للعلماء، وأسس الرباطات للعباد والزهاد وأهل الصلاح والفقراء، ثم أجرى لهم الجرايات والكسى والنفقات، وأجرى الخبز والورق لمن كان من أهل العلم مضافا إلى أرزاقهم، وعم بذلك سائر أقطار مملكته، فلم يكن من أوائل الشام وهي بيت المقدس إلى سائر الشام الأعلى وديار بكر والعراقين، وخراسان بأقطارها إلى سمرقند من وراء نهر جيحون مسيرة زهاء مائة يوم، حامل علم أو طالبه أو زاهد أو متعبد في زاويته إلا وكرامته شاملة له سابغة عليه. فكان الذي يخرج من بيوت أموله في هذه الأبواب ستمائة ألف دينار في كل سنة، فوشى به الوشاة إلى أبي الفتح الملك وأوغلوا صدره عليه وقالوا: إن هذا المال المخرج من بيوت الأموال يقام به جيش يركز رايته في سور قسطنطينية.

فخامر ذلك قلب أبي الفتح الملك فلما دخل عليه قال: يا أبت بلغني أنك تخرج من بيوت الأموال كل سنة ستمائة ألف دينار إلى من لا ينفعنا ولا يغني عنا. فبكى نظام الملك وقال: يا بني أنا شيخ أعجمي لو نودي علي فيمن يزيد لم أحفظ خمسة دنانير، وأنت غلام تركي لو نودي عليك عساك تحفظ ثلاثين ديناراً وأنت مشتغل بلذاتك ومنهمك في شهواتك، وأكثر ما يصعد إلى الله معاصيك دون طاعتك، وجيوشك الذين تعدهم للنوائب إذا احتشدوا كافحوا عنك بسيوف طولها ذراعان وقوس لا ينتهي مدى مرماه ثلثمائة ذراع، وهم مع ذلك مستغرقون في المعاصي والخمور والملاهي والمزمار والطنبور.

وأنا أقمت لك جيشاً يسمى جيش الليل إذا نامت جيوشك ليلاً قامت جيوش الليل على أقدامهم صفوفاً بين يدي ربهم، فأرسلوا دموعهم وأطلقوا بالدعاء ألسنتهم، ومدوا إلى الله أكفهم بالدعاء لك ولجيوشك فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون وبدعائهم تثبتون وببركتهم تمطرون وترزقون، تخرق سهامهم إلى السماء السابعة بالدعاء والتضرع. فبكى أبو الفتح الملك بكاء شديداً ثم قال يا أبت شاباش يا أبت شاباش أكثر لي من هذا الجيش! ومن مناقب هذا الرجل وفضائله أن رجلاً قصده يقال له أبو سعيد الصوفي فقال له: يا خوجه أنا أبني لك مدرسة ببغداد مدينة الإسلام لا يكون في معمور الأرض مثلها، يخلد بها ذكرك إلى أن تقوم الساعة،.

<<  <   >  >>