الملوك ما حجزه عن الطلب والتدبير، فأخرجه إخوته من سلطانه وقهروه على مملكته. فقال له بعض الحكماء: إن ترك الطلب يضعف الهمة ويذل النفس، وصاحبه سائر إلى أخلاق دواب الحجرة من الحيوان كالضب وسائر الحشرات تنشأ في حجرتها وفيها يكون موتها. ثم جمعوا بين الطلب والقدر وقالوا: إنهما كالعدلين على ظهر الدابة إن حمل في واحد منهما رجح على الآخر وسقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره، وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته.
وضربوا له مثالاً عجيباً فقالوا: إن أعمى ومقعداً كانا في قرية بفقر وضر، لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد. وكان في القرية رجل يطعمهما في كل يوم احتساباً قوتهما من الطعام والشراب، فلم يزالا في عافية إلى أن هلك المحتسب، فأقاما بعده أياماً فاشتد جوعهما وبلغ الضرر منهما جهده، فأجمعا رأيهما على أن يحمل الأعمى المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره، ويستقل الأعمى بحمل المقعد ويدوران في القرية يستطعمان أهلها ففعلا فنجح أمرهما ولو لم يفعلا هلكا. وكذلك القدر سببه الطلب، والطلب سببه القدر، وكل واحد منهما معين لصاحبه. فأخذ جهبل في الطلب فظفر بأعدائه ورجع إلى ملكه. فكان جهبل يقول: لا تدع الطلب اتكالاً على القدر، ولا تجهدن نفسك في الطلب متكلاً عليه مستهيناً بالقدر، فإنك إذا جهدت نفسك في الطلب بوجوه التدبير المحمودة مصدقاً بالقدر، نلت ما تحاول ولم تلتو عليك الأمور. فإن علمت بذلك والتوى عليك أمر من مطلوبك فذلك من إعاقة القدر، وأنك قد أتيت ذنباً فتفقد جوارحك واستكشف ظاهرك وباطنك، وتب إلى الله تعالى من كل ذنب أتيته بجارحة من جوارحك، واخرج من كل مظلمة ظلمتها، فإذا فعلت ذلك قابلك الحظ وساعدك القدر إن شاء الله تعالى.
واعلم أن على هذا الأصل الذي قررناه يخرج كل ما ورد في القرآن العزيز. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوكل على الله عز وجل والتسليم إليه والتفويض له. ومن ذلك أن سليمان الخواص رحمة الله عليه تلى يوماً قوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}(الفرقان: ٥٨) فقال: ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله تعالى. قلنا: معناه لا يلجأ إلى الأسباب اعتماداً عليها، ولكن يلجأ إليها واثقاً بأن الله تعالى يفعل ما يشاء، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعقل الناقة ولبس درعين. ألا ترى أن من يطلب الزرع والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولا بذر أرضه معتمداً في ذلك على الله تعالى واثقاً به أن تلد امرأته من غير وقاع، وتنبت أرضه الزرع من غير بذر، كان عن المعقول خارجاً ولأمر الله تاركاً.
وللأئمة والحكماء في القدر ألفاظ بارعة سليمة على السير والامتحان. منها ما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن القدر، فأعرض عن السائل فأبى إلا الجواب، فقال علي رضي الله عنه: أخبرني أخلقك الله تعالى كما يشاء أو كما تشاء؟ فأمسك الرجل فقال علي رضي الله عنه للحاضرين أترونه يقول كما أشاء؟ إذاً والله أضرب عنقه. فقال الرجل: كما يشاء. فقال علي: يحييك على ما يشاء أو كما تشاء. قال: كما يشاء. قال: أيميتك كما يشاء أو كما تشاء؟ قال: كما يشاء. قال: أفيحشرك كما يشاء أو كما تشاء؟ قال: كما يشاء. قال: أفيدخلك حيث يشاء أو حيث تشاء؟ قال: حيث يشاء. فقال: قم فليس لك من الأمر شيء! وروى أن رجلين قدرياً ومجوسياً تناظرا فقال القدري للمجوسي: ما لك لا تسلم؟ فقال المجوسي: لو أراد الله تعالى لأسلمت. فقال القدري: قد أراد الله تعالى أن تسلم ولكن الشيطان يمنعك! فقال المجوسي: فأنا مع أقواهما.
وروي في الإسرائيليات أن نبياً من أنبياء الله تعالى مر بفخ منصوب، وإذا بطائر قريب منه فقال الطائر: