مما أنت فيه يا أمير المؤمنين كيف حال رجل له خصم ألد؟ قال: سيئ الحالة. قال: فإن كان له خصمان ألدان؟ قال: أسوأ الحالة. قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: لا يهنيه عيش. قال: فو الله ما من أحد من أمة محمد إلا وهو خصمك! فبكى حتى تمنيت أن لا أكون قلت له ذلك.
وقال محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين إنما الدنيا سوق من الأسواق، فمنها خرج الناس بما ربحوا فيها لآخرتهم وخرجوا بما يضرهم، فكم من قوم غرهم مثل الذي أصبحت فيه حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا مرملين، لم يأخذوا من الدنيا للآخرة، فأخذ مالهم من لا يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم؟ فانظر إلى الذي تحب أن يكون معك فقدمه بين يديك حتى تخرج إليه، وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت فابتغ به البدل حيث يجوز البدل، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على غيرك ترجو رواجها عندك، يا أمير المؤمنين افتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم. وحضر رجل بين يدي بعض الملوك فأغلظ له السلطان، فقال له الرجل:
إنما أنت كالسماء إذا أرعدت وأبرقت فقد قرب خيرها? فسكن غضبه وأحسن إليه.
ولما احتاج المنصور بن أبي عامر ملك الأندلس أن يأخذ أرضاً محبسة ويعاوض عنها خيراً منها، استحضر بعض الفقهاء إلى قصره فأفتوا بأنه لا يجوز، فغضب السلطان وأرسل إليهم رجلاً من الوزراء مشهوراً بالحدة والعجلة فقال لهم: يقول لكم أمير المؤمنين يا مشيخة السوء، يا مستحلي أموال الناس، يا آكلي أموال اليتامى ظلماً، يا شهود الزور وآخذي الرشا وملقني الخصوم، وملقحي الشرور وملبسي الأمور، وملتمسي الروايات لدى اتباع الشهوات، تباً لكم ولآرائكم! فهو أعزه الله واقف على فسوقكم قديماً وخونكم لأماناتكم مغضٍ عنه صابرٍ عليه، ثم احتاج إلى دقة نظركم في حاجة مرة واحدة في دهره، فلم تشفعوا إرادته، ما كان هذا ظنه بكم، والله ليعارضنكم وليكشفن ستوركم، وليناصحن الإسلام فيكم! وأفحش عليهم بهذا ونحوه فأجابه شيخ منهم ضعيف الهمة فقال: نتوب إلى الله مما قاله أمير المؤمنين ونسأله الإقالة.
فرد عليه زعيم القوم محمد بن إبراهيم بن حيويه وكان جلداً صارماً فقال للمتكلم: مم نتوب يا شيخ السوء؟ نحن براء من متابك! ثم أقبل على الوزير فقال: يا وزير بئس المبلغ أنت! وكل ما نسبته إلينا عن أمير المؤمنين فهو صفتكم معاشر خدمته، فأنتم الذين تأكلون أموال اليتامى بالباطل وتستحلون ظلمهم بالإخافة، وتنتجون معايشكم بالرشا والمصانعة، وتبغون في الأرض بغير الحق، وأما نحن فليست هذه صفاتنا ولا كرامة، ولا يقولها لنا إلا متهم بالديانة، فنحن أعلام الهدى وسرج الظلمة، بنا يتحصن الإسلام ويفرق بين الحلال والحرام وتنفذ الأحكام، وبنا تقام الفرائض وتثبت الحقوق وتحقن الدماء وتستحل الفروج، فهلا إذ عتب علينا أمير المؤمنين بشيء لا ذنب فيه لنا، وقال بالغيظ ما قاله، تأنيت بإبلاغنا رسالته بأهون من إفحاشك، وعرضت لنا بإنكاره، ففهمناه منك وأجبناك عنه بما يصلح الجواب له، وكنت تزين على السلطان ولا تفشي سره، ولا تحيينا بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين لا يتمادى على هذا الرأي فينا، ولا يعتقد هذا المعتقد في صفاتنا، وإنه سيراجع بصيرته في إيثارنا وتعزيزنا، ولو كان عنده على هذه الحالة التي وصفتها عنا، والعياذ بالله تعالى من ذلك، لبطل عليه كل ما صنعه وعقده من أول خلافته إلى هذا الوقت، فلا يثبت له كتاب من حرب ولا سلم ولا شراء ولا بيع، ولا صدقة ولا حبس