أولى بالرحمة، ومتى تضيع أمور الناس، وبم تتلقى النعمة من الله تعالى؟ فكتب إليه: إن أولى الناس بالرحمة ثلاثة: البر يكون في السلطان الفاجر، فهو الدهر حزين لما يرى ويسمع. والعاقل يكون في تدبير الجاهل، فهو الدهر متعوب مهموم. والكريم يحتاج إلى اللئيم فهو الدهر خاضع له. وتضيع أمور الناس إذا كان الرأي عند من لا يصله، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه. وتتلقى النعمة من الله تعالى بكثرة شكره ولزوم طاعته واجتناب معصيته. فصار تلميذاً له إلى أن مات.
وقال يحيى بن سعيد: حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفا على عقبة عسفان نظر سليمان إلى السرادقات قد ضربت له، فقال له: يا عمر كيف ترى؟ قال: أرى دنيا عريضة يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسؤول عنها المأخوذ بها. فبينما هو كذلك إذ طار غراب من سرادق سليمان في منقاره كسرة فصاح، فقال سليمان: ما يقول هذا الغراب؟ فقال عمر: ما أدري ما يقول، ولكن إن شئت أخبرتك بعلم. قال: أخبرني. قال: هذا غراب طار من سرادقك في منقاره كسرة، أنت بها مأخوذ مسؤول عنها من أين دخلت ومن أين خرجت؟ قال: إنك لتجيء بالعجب! قال: أفلا أخبرك بأعجب من هذا؟ قال: بلى. قال: من عرف الله كيف عصاه، ومن عرف الشيطان كيف أطاعه، ومن أيقن بالموت كيف يهنيه العيش؟ قال: لقد غشيت علينا ما نحن فيه. ثم ضرب فرسه وسار.
ويروى أن بلال بن أبي بردة خرج في جنازة وهو أمير على البصرة، فنظر إلى جماعة وقوفاً فقال: ما هذا؟ قالوا: مالك بن دينار يذكر الناس. فقال الوصيف معه: اذهب إلى مالك بن دينار فقل له يرتفع إلينا إلى القبر. فجاء الوصيف فأدى الرسالة إلى مالك فصاح به مالك: لا، ما لي إليه حاجة فأجيبه فيها، فإن تكن له حاجة فليجئ إلى حاجة نفسه. فلما دفنوا ميتهم قام بلال بمن معه إلى حلقة مالك، فلما دنا منها نزل ونزل من معه، ثم جاء يمشي إلى الحلقة حتى جلس، فلما رآه مالك بن دينار سكت فأطال السكوت، فقال له بلال: يا أبا يحيى ذكرنا. قال: نسيت شيئاً فأذكركه. قال له: فحدثنا. قال: أما هذا فنعم. قدم علينا أمير من قبلك على البصرة، فمات فدفناه في هذه الجبانة، ثم أتينا بزنجي فدفناه إلى جنبه، فوالله ما أدري أيهما كان أكرم على الله سبحانه وتعالى. فقال بلال: يا أبا يحيى أتدري ما الذي جرأك علينا وما الذي سكتني عنك؟ قال: لا. قال: لأنك لم تأخذ من دراهمنا شيئاً، أما والله لو أخذت من دراهمنا شيئاً ما اجترأت علي هذه الجرأة! فأفادني هذا الحديث علماً ألا فاتقوا دراهمهم.
ودخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فقال: يا ابن شهاب ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: حدثونا أن الله تبارك وتعالى إذا استرعى عبداً رعية كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات! قال: كذبوا يا أمير المؤمنين! أنبي خليفة أقرب إلى الله أم خليفة ليس بنبي؟ قال: بل نبي خليفة. قال: أنا أحدثك يا أمير المؤمنين بما لا شك فيه، قال الله تعالى لنبيه داود:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(صّ: ٢٦) . يا أمير المؤمنين، هذا وعيد الله لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي؟ فقال الوليد: إن الناس ليفرونا عن ديننا.
وروى زياد بن مالك بن أنس، قال: لما بعث أبو جعفر إلى مالك بن أنس وابن طاوس فدخلا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وبين يديه جلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، فأطرق عنا طويلاً ثم رفع رأسه إلى ابن طاوس