للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كما تقدم ذكره، فحلفوا له فأعانهم على غسله، ثم قالوا: تقدم فصل عليه. قال: لا حتى تحلفوا لي أربعاً وثلاثين يميناً كما تقدم، فحلفوا له فصلى عليه. ثم التفتوا فلم يروا أحداً، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبياً أو قتله نبي، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين. وقال أبو ذر: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ستة أيام أعقل يا أبا ذر ما أقول لك. قال: فلما كان في اليوم السابع قال: أوصيك بتقوى الله في أمر سرك وعلانيتك، وإذا أسأت فأحسن ولا تسألن أحداً وإن سقط سقوطك، ولا تأوين أمانة ولا تأوين يتيماً ولا تقضين بين اثنين. وقال أبو ذر أيضاً: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أحب لك ما أحب لنفسي وإني أراك ضعيفاً فلا تتأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم.

وروى أبو ذر أيضاً قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي وقال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها. وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن، فقلت: يا رسول الله إنك تبعثني إلى قوم شيوخ ذوي أسنان ولا علم لي بالقضاء. فقال: إن الله سبحانه وتعالى هاد قلبك ولسانك، فإذا جلس الخصمان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك إذا سمعت ذلك عرفت كيف تقضي.

فإن قال قائل: كيف نهى أبا ذر عن القضاء وأمر علياً به مع ما فيه من التغرير، وما روي أن من قدم للقضاء فقد ذبح بغير سكين، وفيه البعد من حضرته وترك التيمن بمشاهدته وتعلم سننه وشرائع دينه والتخلق بأخلاقه وشيمه، وأيهما أفضل: المثول بين يديه والكون بحضرته ومشاهدته والصلاة خلفه أو القضاء في غيبته والبعد عنه؟ قلنا: إنما نهى أبا ذر عن القضاء لمعنى فيه يقصر به عن رتبة القضاء، مما كان ضده في علي رضي الله عنه من استجماع شرائط القضاء وقوته عليه. ألا تراه قال لأبي ذر: إني أراك ضعيفاً، ثم قال في آخره: إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها، فاستدللنا بهذا على أن من استجمعت فيه شرائط القضاء وكان قوياً على إنفاذه لم يدخل تحت النهي. ومما يعد ضعفاً عن القضاء طلبه إياه إذا لم يدر عواقبه.

وقد وصف الله سبحانه المتسرعين إلى الأمانة بالجهل، فقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب: ٧٢) . أي ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة أمره، والدليل على صحة هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار. قلت: فهذان الرجلان ضعيفان عن مرتبة القضاء، أحدهما بفسقه وظلمه، والآخر بجهله.

وقد عابت جهلى بني إسرائيل طالوت فقالوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ فعابوه بخصلتين: الفقر وأنه ليس من سبط المملكة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء. فبين شروط الولاية والممالك وأنها تفتقر إلى العلم الذي به يحكم، وإلى القوة التي بها تنفذ الأحكام دون ما ظنه بنو إسرائيل. وأما قولك أيهما أفضل: القضاء في غيبته أو الحضور بين يديه والكون في حضرته؟ فالجواب: إن أوامره فرض لا يعصى بتركه، والكون في حضرته مستحب بعد الهجرة ولا يعصى بتركه، فعلمنا بهذا أنه إنما بعث علياً للقضاء لأنه

<<  <   >  >>