واشتغلنا في الكبر! فقال المأمون: لم لا تتعلم اليوم؟ قال: أويحسن لمثلي طلب العلم؟ قال: نعم. والله لأن تموت طالباً للعلم خير من أن تعيش قانعاً بالجهل! قال: ومتى يحسن طلب العلم؟ قال: ما حسنت بك الحياة.
وروي أن بعض الحكماء رأى شيخاً يطلب العلم ويحب النظر فيه ويستحي. فقال: يا هذا، أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل مما كنت في أوله؟ ولأن الصغر أعذر وإن لم يكن في الجهل عذر. وفي منثور الحكم: جهل الشاب معذور وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أقبح ونقصه عليه أفضح، لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلاً ولم يفده علماً، كان الصغير أفضل منه، لأن الأمل فيه أقوى. وحسبك نقيصة في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه. وكل ما ذكرنا من حاجة الشيخ إلى العلم فحاجة السلطان إليه أكثر، ودواعيه إلى اكتسابه أشد، لأن من عداه إنما يخصه نفسه الواحدة فيفوت عليه تحصيل ما يقومها به، والملك منتصب سياسة أهل مملكته وتعليمهم وتقويم أودهم، فهو إلى العلم أحوج، كما قال الشاعر:
إذا لم يكن مر السنين مترجماً عن الفضل في الإنسان سميته طفلاً
وما تنفع الأعوام حين تعدها ولم تستفد فيهن علماً ولا عقلا؟
أرى الدهر من سوء التصرف مائلاً إلى كل ذي جهل كائن به جهلا!
وما يألف الإنسان إلا شبيهه كذاك رأينا العير قد يألف البغلا!
وقال بعض الحكماء: كل عز لا يوطده علم مذلة، وكل علم لا يؤيده عقل مضلة. وكيف يستنكف ملك أو ذو منزلة علية عن طلب العلم؟ وهذا موسى عليه السلام ارتحل من الشام إلى مجمع البحرين في أقصى المغرب على بحر الظلمات، إلى لقاء الخضر ليتعلم منه، فلما ظفر به قال:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}(الكهف: ٦٦) . هذا وهو نبي الله وكليمه. وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوته من جميع خلقه، قد أوصاه ربه سبحانه وتعالى وعلمه كيف يستنزل ما في خزائنه، فقال:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(طه: ١١٤) . فلو كان في خزائنه أشرف من العلم لنبهه عليه. وهذا آدم عليه السلام لما فخرت الملائكة بتسبيحها وتقديسها لربها وفخر آدم بالعلم:{فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة: ٣١) . فلما عجزوا أمرهم بالسجود له. وأخلق بخصلة تستدعي السجود لحاملها أن يتنافس فيها كل ذي لب! وهذا فصل الخطاب لمن تدبره.
ولا ينصبن لك عذراً بما روي في بعض الأخبار مثل الذي يتعلم العلم في صغره كالنقش على الحجر، مثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء. وسمع الأحنف رجلاً يقول: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فقال الأحنف: الكبير أكبر عقلاً ولكنه أشغل قلباً؛ ففحص عن المعنى ونبه على العلة. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون شيوخاً وكهولاً وأحداثاً، وكانوا يتعلمون العلم والقرآن والسنن وهم بحور العلم وأطواد الحكم والفقه، غير أن العلم في الصغر أرسخ أصولاً وأبسق فروعاً، وليس إذا لم يحوه كله يفته كله. قال رجل لأبي هريرة رضي الله عنه: إني أريد أن أتعلم العلم وأخاف أن أضيعه! فقال أبو هريرة: كفى يتركك له تضييعاً. وبعض الخير من كل الشر. وإنما مثل الجاهل تحت عبء الجهل مثل الحمال تحت حمل ثقيل، فإن هو كلما أعيى نقصه قليلاً فيوشك أن ينقصه كله فيستريح منه، وإن هو لم يطرح القليل حتى يطرح الكثير فما أوشك أن يصرعه حمله، فكذلك الجاهل إذا تعلم قليلاً قليلاً يوشك أن يأتي على بقيته، وإن لم يتعلم في الكبر ما فاته في الصغر فأوشك به أن يموت تحت عبء الجهل!
الباب الثاني والعشرون: في وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب