أولاد العرب كان يحادثني، وأمتعني والله بفصاحته وملاحته: أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم وأنك أحمق؟ قال: لا والله! قلت: ولم؟ قال: أخاف أن يجني علي حمقي جناية تذهب بمالي ويبقى علي حمقي؛ استخرج هذا الصبي بفرط ذكائه ما يدق على من هو أكبر منه سناً. وقيل لبعض الصبيان: ألك أب؟ قال: فكأني عيسى بن مريم! وقد قالت الحكماء: آية العقل سرعة الفهم وغايته إصابة الوهم، وليس للذكاء غاية ولا لجودة القريحة نهاية. ألا ترى أن أياس بن معاوية الذي يضرب المثل بذكائه قال لأبيه وهو طفل، وكان أبوه يؤثر أخاه عليه: يا أبت، تعلم ما مثلي ومثل أخي معك إلا أنا كفرخ الحمام، أقبح ما يكون أصغر ما يكون، وكلما كبر ازداد ملاحة وحسناً، فتبنى له العلالي وتتخذ له المربعات وتستحسنه الملوك، ومثل أخي مثل الجحش أملح ما يكون أصغر ما يكون وكلما كبر قبح وصار إلى القهقرى، إنما يصلح لحمل الزبل والتراب.
والوجه الثاني ما يصلح لذوي الحنكة وصحة الروية لطول ممارسة والأمور كثيرة التجارب، ومرور العبر على أسماعهم وتقلب الأيام وتصرف الحوادث وتناسخ الدول، قد مرت على عيونهم وجوه الغير وتصدت لأسماعهم أنواع الأخبار وآثار العبر. قال بعض الحكماء: كفى بالتجارب تأديباً وبتقلب الأيام عظة. وقالوا: التجربة مرآة العقل والغرة ثمرة الجهل. ولذلك حمدت آراء الشيوخ حتى قالوا: المشايخ أشجار الوقار وينابيع الأنوار، لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم وهم، فعليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن عدموا ذكاء الطبع فقد أفادتهم الأيام حنكة وتجربة. وقال الشاعر:
ألم تر أن العقل زين لأهله
ولكن تمام العقل طول التجارب
وقال الآخر:
إذا طال عمر المرء في غير آفة
أفادت له الأيام في كرها عقلا
غير أن للعقل آفات، كما قال بعض الحكماء: كيف يرجو العاقل النجاة، والهوى والشهوة قد اكتنفاه، والهوى أبعد من أن تنفذ فيه حيلة الحازم المحتال، وهو أغمض مسلكاً في الجنان من الروح في الجثمان، وأملك في النفس من النفس والمالك للشيء. ولهذا قيل: كم من عاقل أسير عند هوى أمير؟ فمن أحب أن يكون حراً فلا يهوى وإلا صار عبداً كما قال علي بن الجهم:
أنفس حرة ونحن عبيد
إن رق الهوى لرق شديد
واختلف الناس في العقل المكتسب إذا تناهى وزاد في الإنسان، هل يكون فضيلة أم لا؟ فقال معظم العقلاء: إنه فضيلة لأنه أذن كان مجموع آحاد وللآحاد فضائل، ولا شك أن كثرة الفضائل فضيلة. وأما الشيء المحدود فتكون الزيادة فيه نقصاً من المحدود كالتهور في الشجاعة، والتبذير في الكرم. وأما الزيادة في العقل المكتسب فزيادة علم بالأمور وحسن إصابة بالظنون، ومعرفة ما لم يكن بما قد كان. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الناس أعقل الناس. وقال عليه السلام: العقل حيث كان إلف مألوف. وقال القاسم بن محمد: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب الخصال عليه.
ولما مات بعض الخلفاء تخشخشت الروم واحتشدت واجتمعت ملوكها وقالوا: الآن يستقل المسلمون بعضهم ببعض فتمكننا الغرة فيهم والوثبة عليهم، وضربوا في ذلك مشاورات وتراجعوا فيه بالمناظرات، واجتمعوا على أنه فرصة الدهر وثغرة النحر. وكان رجل منهم من ذوي الرأي والمعرفة غائباً عنهم فقالوا: من الحزم عرض الرأي عليه. فلما أخبروه بما أجمعوا